تزداد الأزمة الليبية في واقع الأمر تعقيدا وتشابكا، وعليه فإن تعليل النفس بأن "باليرمو" سيأتي بما لم يأت به الأوائل، هو ضرب من الخداع.
هل يمكن للمرء التعويل على مؤتمر باليرمو الذي انطلقت فعالياته بالأمس في الأراضي الإيطالية، من أجل وضع مسار سياسي ينقذ ليبيا من وهدة الجحيم القائمة والقادمة؟
تساؤل واجه كافة المشتغلين بقضايا التحليل السياسي في الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي الأسابيع الماضية، سيما وأن الخرق الليبي اتسع على الراتق الأممي، ومثلما فشل المؤتمر الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مايو الماضي يخشى المراقبون من أن يلحق المصير عينه تجمع باليرمو.
ولعل السؤال الأول الواجب طرحه: هل يمكن للأطراف الخارجية أن تكون أكثر اهتماما وانشغالا بالمصير الليبي من أبناء ليبيا أنفسهم؟
شيء لا يمكن تقبله عقلا أو نقلا أن تكون تركيا وقطر الدولتان اللتان وفرتا ملاذات آمنة للفارين من هزائم داعش في العراق وسوريا شريكتين في مؤتمر يفترض فيه أن ينتشل ليبيا والليبيين من حالة الغرق السياسي الآنية
هنا مربط الفرس كما يقال، ولعل أفضل من شخّص وضع ليبيا الحالي بشكل موضوعي وعقلاني، كان المبعوث الأممي غسان سلامة الذي اعتبر أن الأزمة الليبية تتشظى وتنتشر كالقنابل العنقودية يوما تلو الآخر، وكلما تأخر الوصول إلى تسوية، تعذر في نهاية الأمر طرح الحلول، والأكثر سوءا أنه كلما تسيل الدماء تتعذر المصالحة.
تزداد الأزمة الليبية في واقع الأمر تعقيدا وتشابكا، وعليه فإن تعليل النفس بأن "باليرمو" سيأتي بما لم يأت به الأوائل، هو ضرب من خداع الذات، والمشهد الليبي يكشف عن صراعات غير طبيعية تجعل ومن أسف سيناريوهات تقسيم ليبيا الموحدة هو الأقرب للواقع.
أحد الأسئلة الجوهرية الحقيق بنا طرحها: هل إيطاليا خالصة النية بالمطلق في دعوتها لمثل هذا المؤتمر ومن قبلها فرنسا؟
يمكن للمرأ أن يحاجج بأنها البراجماتية السياسية الإيطالية المستنيرة أي تلك التي تسعى لتحقيق مصالحها، لكنها في الوقت عينه لا تختصم من صالح ومصالح الآخرين.
غير أن الصراع الدائر ما بين باريس وروما يبين لنا بجلاء كيف أن العاصمتين الأوروبيتين تتنافسان على تحقيق المكاسب على الأراضي الليبية، ومن دون أدنى التفاتة إلى الشعب الليبي الذي باتت جموعه كالأيتام على موائد اللئام.
ظاهريا تتحدث روما عن الخطر الذي يتهدد أوروبا من جراء الهجرة غير الشرعية التي تنفذ إلى القارة العجوز من خلال السواحل الليبية، وقد يتفهم القارئ تلك الإشكالية، لكن السؤال هل كان ذلك ليغيب عن أعين الإيطاليين حين سارعوا إلى إسقاط نظام القذافي؟
إيطاليا جل اهتمامها في الأصل يتصل بثروات ليبيا من النفط والغاز، وأوروبا في غالبها في حاجة ماسة إلى هذا المورد الرخيص الثمن والقريب من حيث المسافة، والذي يوفر لها بديلا عن تحكم الدب الروسي في الغاز المصدر للقارة الأوروبية، وفرنسا تتشارك مع إيطاليا ذات الأغراض ولهذا كان إصرارها على إجراء انتخابات ليبية في العاشر من ديسمبر القادم، حتى وإن لم يكن الليبيون على جهوزية كافة لإجراء مثل تلك الانتخابات.
عشية انطلاق أعمال "باليرمو" طالب الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد أحمد أبو الغيط كافة الأطراف الليبية بالانخراط وبحسن نية في المسار السياسي الذي يرعاه المبعوث الأممي سلامة وذلك لاستكمال المرحلة الانتقالية.
يمكن القول بأن تمنيات السيد أبو الغيط تدخل في إطار الأمنيات، سواء تعلق الأمر بتوحيد المؤسسات الاقتصادية والمالية المنقسمة، أو إنفاذ الترتيبات الأمنية التي تحول دون تجدد الاشتباكات المسلحة في العاصمة طرابلس، وصولا إلى قضية التوصل إلى حل دائم وجذري للتهديد الذي تمثله المجموعات والمليشيات المسلحة التي تعمل خارج سلطة الدولة.
الأمر هنا ليس من قبيل التشاؤم أو التفاؤل، بل هو الواقع الذي يحكم المشهد في الداخل الليبي الذي بات خلفية جغرافية وديموغرافية لصراع الأمم والحروب بالوكالة بين أطراف ربما يكون من صالحها بقاء الحال على ما هو عليه، فيما تراقب أطراف دولية أخرى تحسبا للانقضاض في نهاية الأمر، وإعلان شريعة الغاب وحكم القوة الخشنة.
ما جرى في الأعوام القليلة الماضية في ليبيا كان كارثيا من حيث إنه أوجد متغيرا مطلقا جديدا، متغيرا لا علاقة له بعالم السياسة النسبي، فقد أطلقت الفوضى غير الخلاقة المجال أمام جماعات الإسلام السياسي الظاهرة في العلن، وحضورها الإرهابي الخفي، لأن تلعب دورا كبيرا في الساحة الليبية، ولهذا أضحت المواجهات بين ما هو نسبي وما هو مطلق، والمعروف أن تعددية المطلق زائفة، وأن المؤمنين بالدوجمائيات لا يوفرون مكانا للآخر إلا إذا كان ميتا، وأقرب الطرق إليهم هي العزل والإبعاد والإقصاء أدبيا ومن ثم ماديا.
هذه هي الكارثة الحقيقية التي تجعل الأزمة المالية شديدة التعقيد، وليس سرا أن هناك من يغازل أطرافا بعينها، سيما في الغرب الليبي لتبقى على أوضاعها، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكية وعينها على الداخل الأفريقي في قادم الأيام، مهما حملت هذه الرؤية من شبهة لعلاقة ما بين واشنطن وجماعات الإسلام السياسي، وهي تهمة كائنة في أضابير التاريخ منذ أن التقى سعيد رمضان صهر حسن البنا الرئيس الأمريكي ايزنهاور في البيت الأبيض عام 1954.
الليبيون غير مهيئين لمؤتمر مصالحة وإعادة ترتيب أوراق حقيقية لسبب أولي بسيط، وهو أنه لم تكن هناك أركان دولة ليبية في الأصل، فخلال أربعة عقود من الأوهام السياسية أقنع حاكم ليبيا شعبه أنه يعيش الحلم اليوتوبي، وحين استيقظ الجميع بات الكابوس متمثلا في مجموعات من البشر تريد الإبقاء على الأمر الواقع لأنه يضمن للجميع نهب ثروات البلاد كما أشار البروفيسور سلامة، حيث تعرف ليبيا مليونيرا جديدا كل صباح، سواء من تهريب النفط أو السلاح وربما البشر.
أحد الأسئلة المثيرة للتعجب في لقاء باليرمو: كيف تدعى قطر للحضور هي أو تركيا وهما أصل من أصول الداء في الجسد الليبي المثخن بالجراح؟
شيء لا يمكن تقبله عقلا أو نقلا أن تكون تركيا وقطر، الدولتان اللتان وفرتا ملاذات آمنة للفارين من هزائم داعش في العراق وسوريا، شريكتين في مؤتمر يفترض فيه أن ينتشل ليبيا والليبيين من حالة الغرق السياسي الآنية.
يراهن شرق ليبيا ربما على روسيا الاتحادية، وقد أطلق المتحدث باسم الجيش الليبي ما يشبه نداء استغاثة لبوتين ليكرر ما فعله في سورية على الأراضي الليبية.
وفي طرابلس يمارس العم سام أدواره التقليدية، وهو يحلم ببدايات شتاء عربي مكمل للربيع العربي ،فيما تستهلك أوربا الوقت ربما لصالح الطرفين.
الخلاصة.. طرح القضايا يبدأ من الذات لا من الآخرين، والذات الليبية غير قادرة على أية طروحات أو شروحات في الحال أو الاستقبال، ما يجعل الحل متعذرا إلى حين إشعار آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة