برهنت حرب غزة المستعرة على أن السلام في فلسطين ولفلسطين هو السبيل الوحيد للإسهام في استقرار المنطقة والعالم.
إن الحروب التي خيضت منذ أكثر من سبعين عاما في فلسطين، أو حول فلسطين، كلها تفجرت من أجل فلسطين؛ فالحقوق لا تسقط بالتقادم، والقتل والتدمير وأهوال الحروب كلها لا تستطيع طمس الحقوق، مهما بلغ عنفها، ومهما أزهقت من أرواح ودفنت ضحايا أبرياء.
كشفت تفاعلات هذه الجولة من الحرب حجم التحولات والتغيرات التي حصلت في عموم المنطقة والعالم، ورافقتها تكهنات وسيناريوهات رسمتها مصالح البعض في فضاء الاحتمالات حول مسارات الحرب وشظاياها ومآلاتها، وحول الجبهات التي يمكن أن تكون في عداد الساحات المرشحة للمواجهة مع إسرائيل.
استغلت بعضُ المدارس "التعبوية" الحرب، فأفرغت ما تبقى بحوزتها من فتات أيديولوجي بدا جليا أنه لا يغني ولا يسمن، ولا يقدم أو يؤخر. إذا كان لهذه الجولة من الصراع سمات استثنائية غير تلك التي وسمت سابقاتها؛ فهي من دون شك قد أسهمت في إماطة اللثام عن أربع حقائق سياسية بلورتها الوقائع المتشكلة حديثاً على الأرض في المنطقة والعالم قبل شرارة هذه الحرب أساسا.
أولى الحقائق تجلت بواقعية محضة وهي أن حروب التحرير الكبرى تخوضها أمةٌ موحدةُ الجذور، مستوفيةٌ شروط القوة وعواملها وأدواتها، متجانسةُ الأهداف، مؤمنةٌ بمصيرها المشترك، ولا يخوضها تيار بعينه أو فصيل، انطلاقا من حساباته الضيقة والمحدودة، ودوافعه الملتبسة، وغاياته المبهمة.
الحقيقة الثانية تندرج في نطاق "الحتمية" التي دللت صيرورة التاريخ على ثباتها، وهي أن أي احتلال لابد زائل مهما بلغ جبروته وعظمت قوته، ومهما استحوذ وحاز من دعم وإسناد ورعاية، ومهما طال أمده.
أما الحقيقة الثالثة فانبثقت من صميم إحجام البعض، عن ترجمة الشعارات المساندة للشعب الفلسطيني، إلى واقع ملموس في الميدان، واتضح التردد من مغبة الانخراط في ساحة الصراع المتفجر لما ينطوي عليه من أعباء، وما قد يفرضه من تبعات عليها.
في حين تبلورت الحقيقة الرابعة في الانقسام الدولي حول طريقة وقف الحرب، والحد من مضاعفاتها الإنسانية، وما رافق الانقسام من اصطفافات دولية، فبرز خللُ موازين القوى الدولية متسقاً مع عجز المنظمات والهيئات الدولية عن الفعل، وعن تأدية أدوارها، وعن القيام بواجباتها المنوطة بها قانونيا وإنسانيا، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص.
إذا كانت الأسئلة التي تحيط بهذه الجولة من الصراع متنوعة وكثيرة من حيث دوافعها ومراميها ونهاياتها، فإن المسؤولية الرئيسية لاندلاعها تقع على عاتق إسرائيل؛ كونها قوة احتلال موصوفة وفق القوانين الدولية، وعليها يقع وزر عدم جنوحها للسلم والسلام؛ فهي من عطّل كثيرا من مبادرات السلام العربية والدولية، وهي من أجهض الاتفاقات مع السلطة الفلسطينية وتنصل من غالبية الالتزامات المنصوص عليها، رغم أنها لم تلبِّ تطلعات الشعب الفلسطيني كاملة، كاتفاق أوسلو، بل وأفرغته من مضامينه بشكل ممنهج، ومهما تكثَّف غبار الحرب فإنه لن يحجب حقيقة ذلك، ولا يمكنه أيضا مساواة الضحية بالجلاد .
مرت القضية الفلسطينية بمنعطفات حادة منها ذاتي فلسطيني داخلي، ومنها خارجي مرتبط بصراعات القوى الدولية والإقليمية والعربية ومصالحها، لكن رغم حالة الاستقطاب التي واجهتها ولا تزال؛ ظلت فلسطين قضية حق وتاريخ وحاضر ومستقبل، وهو ما يجمع عليه العالم حتى أولئك المنحازون لإسرائيل اليوم.
هذه الجولة من الحرب هي الأكثر إيلاما لإسرائيل، والأكثر قسوة على الشعب الفلسطيني، لكن من رحم الحروب يولد السلام كما يخبرنا التاريخ بوقائعه وحقائقه ومساراته.
آن لسفينة فلسطين أن ترسو على بر الأمان بعد أن تكسرت كثير من مجاديفها وهي تقارع أمواج بحارٍ متلاطمة، وتكابد تياراتٍ من المد والجزر.
آن لشعب فلسطين أن ينعم بسيادته واستقلاله وحقوقه على أرضه ويواصل مسيرة ازدهاره. آن لأهل فلسطين أن ينبذوا الفرقة والخصام، وأن يقطعوا من خلال وحدة دمهم، الطريق على المتاجرين بحاضرهم ومستقبلهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة