حجبت الحرب الإسرائيلية على غزة وأجواء التوتر الإقليمي رؤية أعمال النسخة الرابعة لمنتدى الاقتصاد والأعمال التركي-الأفريقي التي عقدت قبل أسبوعين في إسطنبول، وسط مشاركة المئات من القيادات السياسية والهيئات الاقتصادية والخدماتية في الجانبين.
يعود تاريخ العلاقات التركية الأفريقية إلى القرن العاشر ميلاديا، لعب التباعد الجغرافي وطبيعة العلاقات التي بناها كل طرف مع الدوائر والتكتلات المحيطة به دورا أساسيا في رسم معالم هذه العلاقات وتحديد خياراتها وفرصها.
جاء قرار الانفتاح التركي من جديد على أفريقيا ورفع مستوى العلاقات في أواخر التسعينيات، خلال عملية البحث عن أسواق تجارية جديدة نتيجة الجمود الحاصل في العلاقة مع الغرب واتساع رقعة التقارب التركي-العربي في عهد حكومات تورغوت أوزال وسليمان دميرل.
سرع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002 عمليات التقارب والانفتاح على أفريقيا والمرتبط بتوازنات إقليمية جديدة سهلت لأنقرة فرص التمدد والانتشار في إطار جملة من الأهداف المتعددة الجوانب.
تتمسك تركيا بما شيدته من منظومة علاقات مع دول القارة الأفريقية في العقدين الأخيرين، وبما وصلت إليه أرقام التبادل التجاري ومشاريع الاستثمار والتعاون العسكري.
2005 كان عام أفريقيا في تركيا، تبعه بعد 3 سنوات انطلاقة الشراكة الاستراتيجية، وليتم خلال مدة زمنية قياسية عقد 4 قمم تركية أفريقية حملت معها جملة من التحولات في شكل العلاقة ومسارها.
في العقدين الأخيرين مثلا، ارتفع حجم التجارة البينية مع الاتحاد الأفريقي 7.5 مرات وبلغ 41 مليار دولار.
ووصلت قيمة المشاريع التي أنجزتها تركيا في القارة السمراء إلى 85 مليار دولار. كما تجاوز عدد العاملين الأفارقة في الشركات ومشاريع الاستثمار التركية في القارة المئة ألف.
وتضاعفت أرقام البعثات الدبلوماسية من 13 سفارة إلى 41 سفارة تركية في الدول الأفريقية يقابلها 38 سفارة أفريقية، كما تم إنشاء 31 ملحقية تجارية و48 مجلس أعمال ثنائيا.
الهدف الاستراتيجي الجديد لأنقرة هو باتجاه رفع أرقام التبادل التجاري إلى 50 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، ومن ثم نحو 75 مليار دولار.
الاختراق المهم كان أيضا في مبيعات الأسلحة والإنفاقات العسكرية التركية في أفريقيا، حيث وقعت تركيا اتفاقيات مع أكثر من 25 دولة في قطاعي الدفاع والأمن والتدريب، كل هذه الفرص جعلت تركيا تتمتع بوجود عسكري مهم على أراضي القارة بأكبر قاعدة حربية خارج أراضيها في الصومال.
كما وقعت أنقرة اتفاقية أمنية مع النيجر عام 2020 لا تقل أهمية عن اتفاقيات وعقود مماثلة تقوم على تبادل الخبرات وتقاسم التكنولوجيا، والتمويل، وتحديث الجيوش، دون أن نغفل دور وأهمية المسيرات التركية في رفع مستوى هذه العلاقات ودفع العديد من الدول الأفريقية لتوقيع عقود شراء هذه الطائرات.
قررت القيادات التركية إعلان عام 2005 على أنه "عام أفريقيا"، أعقب ذلك قرار الشراكة الاستراتيجية التركية الأفريقية عام 2008 في قمة إسطنبول التي شاركت فيها 53 دولة أفريقية، وكانت أحد أبرز المؤشرات على بداية العودة التركية إلى القارة.
اتفاقية "التعاون الاستراتيجي" بين الجانبين في عام 2010، ثم خطوة عام 2013 باتجاه اعتماد سياسات الشراكة المتساوية بدلا من إقامة العلاقات ثنائية فتحت الطريق على وسعها أمام خارطة التحولات بين الجانبين التي توجت بوقوف أنقرة إلى جانب تسهيل عضوية الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين.
يلخص الشعار الذي ترفعه أنقرة في سياسة انفتاحها على القارة السمراء شراكة "متكافئة ورابحة للطرفين، في إطار الاحترام المتبادل"، الكثير من أهدافها المرحلة المقبلة في علاقات الطرفين.
ومن هذا المنطلق تبنت تركيا في سياسة التعامل مع قضايا القارة السمراء نهجا يجمع دبلوماسية القوة الناعمة والقوة الصلبة، حسب متطلبات المواقف والسياسات.
اتفاقيات تجارية ومساعدات ومنظمات مجتمع مدني إنساني واجتماعي وثقافي من ناحية، وبيع أسلحتها ومسيراتها والمساهمة في تدريب الجيوش والبحث عن موطئ قدم عسكري استراتيجي من ناحية ثانية.
وهكذا وسعت وجودها في كافة أنحاء أفريقيا عبر محاولة ملء الفراغ الذي يتركه البعض سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هناك، ومن خلال أدواتها الممثلة بمؤسسة "تيكا" الإنمائية، ومعهد "يونس إيمره" الثقافي، ووقف المعارف التعليمي، ووكالة الأناضول الإعلامية، والخطوط الجوية التركية، والهلال الأحمر الإنساني، إلى جانب نشاطات هيئة الشؤون الدينية التركية.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة ألقاها خلال مشاركته في ختام النسخة الرابعة من منتدى الأعمال والاقتصاد التركي الأفريقي، أنه قام حتى الآن بخمسين زيارة إلى 30 دولة أفريقية، وأن العلاقات التركية الأفريقية تعيش عصرها الذهبي تقريبا. "أود أن تعلموا أننا سنقدم كافة أنواع المساهمات الضرورية للقارة الأفريقية لتأخذ المكانة التي تستحقها في النظام العالمي". موقف تركي آخر يعكس حجم التقارب والانفتاح على القارة السمراء، لكن لعبة التوازنات الحاصلة اليوم في أفريقيا تتطلب قراءة وتحليلا جديدين.
تعرف قيادات العدالة والتنمية أن الطريق إلى تعزيز الدور الدولي الأفريقي لتسجل من خلاله المزيد من الصعود والانتشار لن يكون سهلا، ويتطلب الكثير من الجهد والصبر.
هو يمر أولا عبر تحقيق حلمها بمواصلة خطط العودة إلى القارة، ويمر ثانيا عبر قبول حساسية تركيبة منظومة العلاقات الإقليمية والدولية المرتبطة بالقارة الأفريقية ونقلات النفوذ الاستراتيجي هناك، وحاجتها للتنسيق مع لاعبين آخرين.
جلوس "الاتحاد الأفريقي" أمام طاولة صناعة القرارات والتأثير في رسم لعبة التوازنات الإقليمية والدولية مرتبط اليوم بشبكة العلاقات مع العديد من القوى الفاعلة والمؤثرة التي حطت الرحال في القارة منذ عقود، وتهيمن على الكثير من القطاعات والمرافق الاقتصادية والحيوية في أفريقيا.
هناك الصين وحجم تبادل تجاري يبلغ 190 مليار دولار مع دول القارة، وهناك أيضا 50 مليار دولار من التبادل التجاري مع ألمانيا، إلى جانب ما تقوله تقارير وبيانات مجموعة الأزمات الدولية حول مليارات الدولارات التي تضخها المجموعة الأوروبية لحماية مصالحها في أفريقيا.
الواقع الآخر الواجب قبوله هو أن سيناريوهات الممرات والخطط التجارية العابرة للقارات -بينها المشروع الصيني والهندي والعراقي- سيكون لها دورها الكبير في إعادة رسم معالم العلاقات التجارية وتوزيع التحاصص من جديد مع القارة السمراء.
هذا إلى جانب أن سياسة تركية في أفريقيا ستأخذ بعين الاعتبار التحولات الأخيرة في مواقف أنقرة وعلاقاتها بالدول العربية الفاعلة في القارة، وعلى رأسها مصر والإمارات والسعودية.
حسنت تركيا من علاقاتها مع العديد من الدول العربية الفاعلة في أفريقيا، والتي بنت هي الأخرى شبكة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية واسعة هناك. قد يشكل ذلك فرصة للتنسيق والتعاون في أفريقيا بعد تصحيح مسار العلاقات.
كانت أفريقيا حتى الأمس القريب تعني الجرح التاريخي العميق والمؤلم للأتراك وتسليم تلك المناطق للإيطاليين والفرنسيين والبريطانيين.
قرار العودة التركية إلى القارة بهذا الحماس والاندفاع والزخم اليوم قد يكون له علاقة بتصفية الحسابات القديمة، لكنه مرتبط أيضا بالفرص والثروات الطبيعية الضخمة التي توفرها القارة للراغبين في الاستثمار والتعاون.
تطرح أنقرة معادلة "رابح-رابح" وتسير عليها لتحقيق المنفعة المتبادلة، لكن وجود لاعبين إقليميين آخرين في الساحة وما يطرح اليوم من ممرات تجارية وخطوط طاقة عابرة للقارات يعني أفريقيا شئنا أم أبينا، ويستدعي بناء شبكة تحالفات وحسابات مغايرة هناك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة