لا تستطيع الولايات المتحدة البقاء في موقع القيادة العالمية ما لم تكن قادرة على الالتزام بمعايير أخلاقية صارمة، تحترم القانون، وتساوي بين الجميع.
إنها قوة عظمى. بل تستطيع أن تقول إنها القوة الأعظم في مستويات عدة، إلا أن هذه القوة عمياء وغاشمة في الوقت نفسه.
عمياء، لأنها لا ترى أن العالم يتغير، حتى لكأن الأرض تميد من تحت أقدامها. وغاشمة لأنها تفرض إرادتها عن طريق الابتزاز والتهديد، وتنظر إلى مصالحها الأنانية الخاصة، ولا تتردد في مساندة الباطل والجريمة عندما تكون مفيدة لتلك المصالح.
وهذا وضع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ولسوف يأتي يوم على هذا الهيكل أن يكتشف أنه صار ديناصورا ضخما، وأن انقراضه أصبح ضرورة من ضرورات الحياة.
سبق لقوى عظمى كثيرة أن انقرضت، وفي الواقع فإن وجها من تناوب الحضارات هو تاريخٌ لانقراض تلك القوى العظمى.
امتلكت القوة ولكنها فقدت مكانتها لسبب من الأسباب، بمعزل عن بقاء أو زوال معاني قوتها السابقة.
عالم اليوم يتحول بسرعة فائقة إلى عالم متعدد القوى، ليس بالمعنى القديم على الإطلاق، حيث كانت توجد قوى عظمى متصارعة، ولكن بمعنى أن عددا متزايدا من الدول في العالم يكتسب مكانة قوة لا غنى عنها لبقية العالم، انطلاقا من خصوصية ما، أو قدرة اقتصادية ما، أو علاقات إنسانية ما.
دع عنك أن روسيا قوة عظمى بالمعايير التقليدية، لتكتشف أنها قوة عظمى لأنها أكبر مصدر للحبوب والأسمدة في العالم، على سبيل المثال لا الحصر، كذلك الحال بالنسبة لأوكرانيا، إذا نظرت إلى أهمية صادراتها من القمح إلى أرجاء عدة من دول العالم. والسعودية، قوة عظمى، من دون قنابل نووية، لأنها منتج لمصادر الطاقة، تتأثر بها اقتصاديات العالم بأسره، والهند قوة عظمى كمحرك جديد للنمو العالمي، وهكذا في أرجاء العالم المختلفة.
وليست هذه سوى أمثلة لواقع أن مفهوم القوة العظمى القديم لم يعد يتطابق مع الواقع، حيث تتعدد القوى العظمى، بمقاييس جديدة.
ولئن كانت الولايات المتحدة تمتلك الهيمنة على العديد من مصادر صنع النفوذ والقوة فإن الكتل الاقتصادية الناشئة وأطر التعاون المتبادل بين مجموعات من الدول، وتعدد منافذ التجارة وآليات تسوية التعاملات النقدية، تقول إن تلك الهيمنة تتآكل تدريجيا، وتسير على نحو حثيث نحو الهاوية.
ماذا يمكن أن يبقى للولايات المتحدة في هذا الواقع؟
لو أنها بقيت تمارس معاييرها المزدوجة، وسياسات الإملاء واستعراض القوة، والتغاضي عن الجرائم والانتهاكات كلما كانت تتلاءم مع تصوراتها لمصالحها الخاصة، فلن يبقى لهذه القوة العظمى أن تمارس نفوذا على شيء أو أحد.
دولة بعد أخرى، ومجتمعا بعد آخر، سوف ينظر إلى هذه القوة الغاشمة على أنها قوة لا أخلاقية، وغير جديرة بالثقة، وتتوفر بدائل لها، ومن غير الممكن منحها المزيد من الامتيازات، على الأقل لأنها لا تلتزم بمعايير ثابتة، ولا تحترم قانونا حتى ولو كانت طرفا في سنّه، أو قيما إنسانية تدّعيها.
ما صار صارخا في فضيحته هو أن الولايات المتحدة تحارب احتلالا وتدعم آخر، ترسل أسلحة للضحية في مكان، وللجاني في مكان آخر، تدّعي احتراما لحقوق الإنسان، وتتغاضى عن انتهاكها في آن واحد، بل تمارسها أيضا.
تكذب من أجل تبرير حروب، مثل البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتتخذ من الأكاذيب غطاء لتمرير روايات إسرائيلية مخزية عن أطفال قُطعت رؤوسهم أمام آبائهم، وآباء قُطعت رؤوسهم أمام أبنائهم، لأجل السماح بقصف المنازل على رؤوس الآباء والأبناء في غزة.
كل هذا، والكثير غيره، يشير إلى أن الولايات المتحدة تفتقر إلى القيادة الأخلاقية، بل ربما لا تريدها أصلا، مما يجعل مكانتها كقوة عظمى في موضع لا يتطابق مع واقع العالم اليوم.
هل تستطيع الولايات المتحدة الاستدراك؟
بكل أسف لا، لأن طبيعة "المؤسسة" لا تتحمل تغييرا جذريا من هذا النوع.
تخيّل مدى استحالة أن يكون هناك كونغرس وبيت أبيض وبنتاغون ومراكز صنع قرار، تملي على إسرائيل تطبيق القرار الدولي 242، أو القرار 338، اللذين يطلبان من إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي تم احتلالها في عام 1967، رغم أن القرارين صدرا بموافقة واشنطن.
على الفور، سوف تدرك أن طلبا من هذا النوع يحتاج إلى انقلاب سياسي واستراتيجي وثقافي، والولايات المتحدة ليست مؤهلة له.
الناظرون في تاريخ "صعود وسقوط القوى العظمى" سوف يعرفون السبب الذي أدى إلى سقوط إمبراطورية الهيمنة الأمريكية، ويكتفون به، وهو أنها عجزت عن أن تتبوأ مركز القيادة الأخلاقية في العالم، فانفض العالم من حولها، دولة بعد أخرى، ومجتمعا بعد آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة