لم تكن مخططات تهجير الفلسطينيين من غزة الفلسطينية إلى سيناء المصرية وليدة أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وما تلاها، بل هي قديمة قدم الصراع العربي الإسرائيلي ومواكبة لبداياته ومحطاته الرئيسية ولحظات انفجاره الفاصلة.
وما أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلا لحظة انفجار أخرى ارتأتها إسرائيل مواتية لتنفيذ هذا المخطط الذي طال انتظاره.
والأدلة على ذلك كثيرة والمحطات الفاصلة تكررت مرارا في لحظات الصراع المفصلية، وما تم الكشف عنه يظل نقطة في بحر كبير غامض سيأتي يوم يفيض بما فيه.
ولم يكن ما كشف عنه معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية قبل أسابيع من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كل سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء في مصر هو أول الخطط، أو أول ما يتم الكشف عنه، بل إن الأمر يعود لبدايات الصراع العربي الإسرائيلي ويبدو أنه لم يتوقف يوما ما، وكان ينتظر فقط الفرصة المناسبة والظرف المواتي الذي تحقق مرة أخرى في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في ظل قناعة إسرائيلية قديمة وراسخة بأنه رغم ما قد تواجهه عملية التهجير من التحديات على الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية، فإنها تظل الخيار الأفضل لإسرائيل على المدى الطويل.
المحطة الأولى كانت في عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر وقبل انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية، حين درست الحكومة البريطانية خططاً ومشاريع عدة شملت دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل وكان من بين المشروعات المطروحة مشروع باسم "خطة سيناء"، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونوميست في ديسمبر/كانون الأول عام 1956.
أما أحدث المحطات وبالتأكيد ليست آخرها، كان ما كشف عنه معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كل سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء.
وتمحورت خطة "مونوريو" حول فكرة رئيسية وهي استغلال سيطرة إسرائيل على سيناء لإقناع مصر بالتنازل عن جزء منها لإقامة منطقة دولية باسم "قطاع سيناء"، يشمل هذا القطاع المقترح قطاع غزة بالكامل ونحو 33 كيلومتراً من سيناء تمتد من البحر المتوسط إلى خليج العقبة، بالإضافة إلى جزيرتي تيران وصنافير اللتين احتلتهما إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1956، وبشرت الخطة بتوطين مئات آلاف من الفلسطينيين في "قطاع سيناء" المقترح. بما يحقق هدف "إزالة الخطر اليومي المتمثل في انفجار الوضع في فلسطين".
أما عن كيفية إدارة هذا القطاع وطرق تأمينه، فاقترحت مونوريو، التي كانت في حينها تتمتع بنفوذ وصلات قوية في الشرق الأوسط، وبسمعة كبيرة بعد تأليفها كتباً عدة عن المنطقة، أن تكون الإدارة دولية، وتمارسها إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، وتقدم تقريرا سنويا إلى الجمعية العامة، واقترحت للتأمين تشكيل قوة مدنية تتمتع بمساندة المنظمة الدولية وتحوز ضمانات واسعة لممارسة السلطة في المنطقة.
ولا تملك هذه القوة إلا سلاحاً شرطياً خفيفاً لفرض الأمن والنظام وتسيير الحياة اليومية، ووفق الخطة، ستمنع قوة الشرطة مرور أي أسلحة عبر المنطقة العازلة أو إليها، على أن تمارس القوة الأممية المهام المكلفة بها لمدة 10 سنوات على الأقل، تخضع بعدها لمراجعة الأمم المتحدة.
وفي اقتراحها، أكدت مونوريو أن القطاع المقترح يجب أن يُقتطع فقط من سيناء المصرية، وأضافت أن في ذلك ميزة، موضحة أنه "من المستحيل اقتطاع جزء من إسرائيل".
ودفاعاً عن توقيت طرح الخطة قبل جلاء إسرائيل عن سيناء، قالت المؤلفة البريطانية إن "التنفيذ سيكون أكثر صعوبة بمجرد عودة الأرض (شبه جزيرة سيناء) إلى أيادي المصريين".
المفارقة التاريخية اللافتة في هذه الخطة أنها تكاد تتكرر بنفس أسبابها وظروفها وسياقها وملابساتها الآن، فكأن الليلة تشبه البارحة وكأن الماضي يعيد نفسه، وكأن ثلثي قرن من الزمان لم ينقضيا، فإقدام جمال عبد الناصر على تأميم قناة السويس عام 1956 كان ذريعة لإسرائيل للدخول في الحرب تحقيقاً لأهدافها الخفية أكثر منها سبباً منطقياً أو ضروريا لخوضها، تماما كما استغلت إسرائيل مغامرة حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتحقيق أهداف أبعد كثيراً عن الانتقام لما حدث.
كما أن الأسباب التي ساقتها مونوريو التي يمكن أن تجعل مصر توافق على خطتها هي نفس الأسباب والظروف التي يروج لها أصحاب المشروع الحالي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وهي حاجة مصر إلى المال وأزمتها الاقتصادية التي ستدفعها كما يرى هؤلاء في الماضي والحاضر إلى قبول هذه الصفقة المشبوهة والملوثة بدماء الفلسطينيين.
راهنت مونوريو وقتها على حاجة مصر إلى المال في مشروعات التنمية. وهو نفس المنطق الذي راهن عليه أصحاب المشروع الحالي لتمرير مشروعهم رغم مرور نحو نصف قرن من المشروع الأول.
ففي دراسة خطيرة نشرت قبل أسابيع كشف معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية عن أدق التفاصيل للخطة الإسرائيلية المرتقبة والمأمولة لتهجير كل سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء في مصر.
الدراسة أعدها المحلل الاستراتيجي أمير ويتمان، وجاءت تحت عنوان "خطة التوطين والتأهيل النهائي في مصر لجميع سكان غزة: الجوانب الاقتصادية". وشملت عدة نقاط رئيسية تعتمد عليها إسرائيل لتهجير سكان غزة إلى مصر، وأهم هذه النقاط هي استغلال أزمة مصر الاقتصادية بتهجير هؤلاء الفلسطينيين إلى سيناء مقابل "امتيازات مادية ضخمة".
ووفق الخطة، فإن هناك فرصة فريدة ونادرة لإخلاء قطاع غزة بالكامل بالتنسيق مع الحكومة المصرية، حيث إن هناك حاجة إلى خطة فورية وواقعية ومستدامة لإعادة التوطين وإعادة التأهيل الإنساني لجميع السكان العرب في قطاع غزة في سيناء، التي تتوافق بشكل جيد مع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية لإسرائيل ومصر والولايات المتحدة والسعودية.
وتعتمد الخطة الإسرائيلية على تقديم حوافز مالية فورية على هذا المستوى للاقتصاد المصري من شأنه أن يوفر فائدة هائلة وفورية للحكومة المصرية، وأن هذه المبالغ المالية، بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي ضئيلة للغاية، حيث إن استثمار بضعة مليارات من الدولارات لحل هذه القضية الصعبة هو حل مبتكر ورخيص ومستدام.
وأشارت الدراسة إلى أن "الدائنين لمصر، مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما، لا يريدون أن يشهدوا الفشل التام للاقتصاد المصري، بحيث يكون لديهم أيضًا حافز لإبقاء الاقتصاد المصري واقفاً على قدميه حتى لو انتهى بالاستثمار الإسرائيلي في إعادة تأهيل جميع سكان غزة في الشقق الموجودة في مصر".
فبالنسبة للدول الأوروبية، وبشكل رئيسي دول أوروبا الغربية، نقل جميع سكان غزة إلى مصر وإعادة تأهيلهم مع الحد بشكل كبير من خطر الهجرة غير الشرعية إلى أراضيهم ميزة كبيرة، وللحديث بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة