غزو بنما.. الضربة الأولى في سجل «الحروب الأبدية» لأمريكا

عندما أضاءت طلقات مدفع طائرة AC130 سماء بنما في الساعات الأولى من 20 ديسمبر/كانون الأول 1989، لم يكن كثيرون يدركون أن هذا الحدث سيشكل بداية عصر جديد من التفوق الأمريكي الأحادي.
في تلك الليلة، شنت الولايات المتحدة هجومًا مفاجئًا وسريعًا شارك فيه أكثر من 20 ألف جندي، بهدف الإطاحة بنظام الجنرال مانويل نورييغا، الذي أصبح مصدر إزعاج لصناع القرار في واشنطن، بحسب موقع ريسبونسبول ستيت كرافت.
حملت العملية اسم "القضية العادلة " (Operation JUST CAUSE)، ورغم أنها أصبحت اليوم طي النسيان، فإنها كانت خطوة أولى حاسمة نحو سلسلة من التدخلات العسكرية الأمريكية التي لا تنتهي.
ومع انتهاء الحرب الباردة وزوال القوى المنافسة، شعر القادة الأمريكيون بأنهم باتوا أحرارًا في اتخاذ قراراتهم دون قيود، ورأوا في نجاح هذه العملية دليلاً على أن تغيير الأنظمة ممكن وسهل التحقيق.
ولطالما كانت بنما وقناتها محورًا استراتيجيًا للسياسة الأمريكية، مستندة إلى أفكار الأدميرال ألفريد ماهان حول أهمية القوة البحرية. وقد اتسمت العلاقات بين واشنطن وبنما بتاريخ طويل من التوتر وسوء النية المتبادل. ففي عام 1977، تم التوصل إلى اتفاق لنقل إدارة قناة بنما تدريجيًا، وسط معارضة داخلية أمريكية، ما أدى إلى إدارة مشتركة حتى نهاية القرن.
وبحلول 1989، كان هناك تداخل معقد بين القواعد العسكرية الأمريكية وقوات الدفاع البنمية، مع احتفاظ واشنطن بحق التدخل لحماية القناة.
كان هذا الاتفاق مبنيًا على افتراض وجود علاقات ودية بين الطرفين، وهو أمر لم يتحقق حتى في عهد القائد عمر توريخوس. وبعد وفاته، تولى نورييغا السلطة الفعلية عام 1981، وقدم نفسه كحليف للولايات المتحدة في سياساتها بأمريكا الوسطى، لكن ارتباطه بعصابات المخدرات وخصوم واشنطن كانت سببا في انهيار العلاقة بعد اتهام نورييغا رسميًا بقضايا مخدرات عام 1987.
وتحول نورييغا إلى عبء سياسي على إدارات ريغان وبوش الأب، خاصة بعد إلغائه نتائج الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار 1989، واستخدامه العنف لقمع المعارضة.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية أثرت على السكان دون أن تزعزع نظامه، ونجا نورييغا من محاولتي انقلاب في 1988 و1989. وفي المحاولة الأخيرة، فشلت القوات الأمريكية في منع إنقاذه، ما شكل إحراجًا لإدارة بوش.
ومع تصاعد الأزمة، تطورت الخطط الأمريكية من محاولة سرية لاختطاف نورييغا إلى غزو عسكري شامل يهدف إلى تدمير قوات الدفاع البنمية وإسقاط النظام.
وعقب مقتل جندي أمريكي والاعتداء على أسرة أمريكية، أعطى الرئيس بوش أوامره بالغزو. نفذت القوات الأمريكية هجومًا ليليًا مباغتًا، ودمرت خلاله معظم قوات الدفاع البنمية في ساعات قليلة. ولجأ نورييغا إلى السفارة البابوية، وبعد مفاوضات، سُلم للولايات المتحدة.
تولى الفائزون في الانتخابات الملغاة الحكم، وعادت غالبية القوات الأمريكية إلى بلادها خلال أسابيع، بينما بقيت وحدات لمواجهة الفوضى وارتفاع معدلات الجريمة.
خلال هذه العملية قُتل 23 جنديًا أمريكيًا، وتفاوتت تقديرات الضحايا البنميين بشكل كبير بين المصادر الرسمية والأخرى المستقلة.
اعتُبرت العملية حينها نجاحًا واضحًا للولايات المتحدة، حيث أنهى التدخل العسكري السريع والفعّال، سنوات من الإخفاقات السياسية، وكان أول اختبار عملي لنظام القيادة الموحدة الجديد. كما أظهرت العملية تطورًا تكتيكيًا مهمًا، حيث برزت القوات الأمريكية كمقاتلين خلال الليل للمرة الأولى.
وأشار التقرير إلى أن هذه التجربة لم تثبت نجاحها على المدى الاستراتيجي. فقد استخلص صناع القرار الأمريكيون دروسًا مضللة من سهولة وسرعة العملية، ما عزز لديهم الميل لاستخدام القوة العسكرية بدلًا من الدبلوماسية، وأعطاهم ثقة مفرطة في إمكانية تغيير الأنظمة بسهولة. لكنهم في الوقت ذاته تجاهلوا الفوارق الجوهرية بين بنما ودول أخرى، مثل توفر معلومات استخباراتية دقيقة، ووجود بديل شرعي جاهز، وكراهية شعبية واسعة لنورييغا.
كما أدى النجاح السريع إلى إهمال التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، وهو خطأ تكرر لاحقًا في أفغانستان والعراق، إلى فوضى سياسية وفراغ في السلطة.
ووفق بيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت فإن "النجاح معلم سيئ، إذ يوهم الناس بأنهم لا يمكن أن يخسروا". وهذا ما حدث في "القضية العادلة"؛ فقد شكل غزو بنما نقطة انطلاق لمسار طويل من التدخلات العسكرية التي اتسمت بالأخطاء والاستنزاف، وما زال تصحيح هذا المسار المبكر صعبًا بعد أن قطعت الولايات المتحدة شوطًا بعيدًا فيه.
aXA6IDE4LjIyNy4xMTEuMTAyIA== جزيرة ام اند امز