تصادم روسي أمريكي في سوريا أو أوكرانيا، أو مواجهة أمريكية صينية في آسيا يمكن أن يطلق شرارة الحرب العالمية الثالثة.
وسط تحذيرات أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من مخاطر وسلبيات تحول النزعات القومية إلى اصطفاف عنصري، ودعوة إلى نبذ الانطواء والعنف والهيمنة، والتعامل بسرعة وجدية مع أزمات تصاعد الحروب والاضطرابات السياسية والاقتصادية في أكثر من بقعة جغرافية في العالم، وتحت عنوان "المعركة من أجل السلام"، شارك نحو 70 رئيس دولة وحكومة في مراسم إحياء مئوية توقيع الهدنة الألمانية الفرنسية البريطانية التي أنهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 في باريس.
هل هدف منتدى باريس هو الدعوة لاتخاذ الدروس والعبر من الحروب وويلاتها والإعداد لخطط بديلة لمنع هذه المآسي؟
خبراء الأمن الاستراتيجي يرون أنه من بداية القرن الخامس عشر وحتى اليوم، وقعت العشرات من الأزمات التي تحولت إلى مواجهات وحروب إقليمية، وأن احتمالات وقوع المزيد من الاحتكاكات قائمة إذا لم نشأ القول إنها تتزايد
الإجابة عن هذا السؤال لم تتأخر وجاءت من قبل ماكرون نفسه، وفي اللحظة التي كان يقود فيها مبادرة عالمية سلمية من هذا النوع. هو لم يتردد في الدعوة إلى تكوين جيش أوروبي بدلاً من الاعتماد على السلاح الأمريكي لمواجهة روسيا وأمريكا، في محاولة للمطالبة باستقلالية أوروبية أمنية وعسكرية عن الولايات المتحدة، مما أثار غضب الرئيس الأمريكي الموجود في العاصمة الفرنسية، ودعاه لتنفيذ تعهداته حيال حلف شمال الأطلسي بدلا من الحديث عن جيش غربي جديد.
نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي أسفرت عن مقتل 20 مليونا بين عسكري ومدني وغيّرت شكل الخارطة الأوروبية بعدما أدت إلى تفكك وسقوط ثلاث إمبراطوريات ونقلت الحرب إلى خارج أوروبا، خصوصا في الشرق الأوسط بعد التفاهمات الفرنسية الإنجليزية حول خريطة تقسيم المنطقة بين سايكس وبيكو وفتح الطريق أمام الهجرة اليهودية نحو الأراضي الفلسطينية مع وعد بلفور عام 1917، وتفاقم الغبن الألماني والياباني- هي نفسها التي رمت بذور الحرب العالمية الثانية التي اندلعت بعد 20 عاما.
منظومة السلم العالمي التي طرحتها باريس ولندن على المجتمع الدولي عبر مشروع عصبة الأمم كانت محطة أخرى لتصفية الحسابات بين المنتصرين والمنهزمين في الحرب، فهي لم تقطع الطريق على الحروب والاقتتال في أوروبا الشرقية والحرب التركية - اليونانية وبناء موجة من الحقد والتربص في جنوب آسيا والشرق الأوسط.
الحرب العالمية الأولى ونتائجها كانتا المقدمة لحروب دولية وإقليمية كثيرة في العالم بدلا من حمل السلم.. عصبة الأمم التي ولدت ميتة في إطار نظام أممي انتقامي وغياب ومقاطعة لاعبين دوليين وإقليميين مثل الولايات المتحدة الأمريكية. يبدو أن إنهاء الحرب كان هدفه الدخول في هدنة مؤقتة تستمر نحو عقدين من الزمن فقط ريثما تسترد ألمانيا أنفاسها وتقرر اليابان أن مصالحها في جنوب شرق آسيا مهددة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وهكذا وقعت الكارثة العالمية الجديدة التي كانت أكثر فظاعة ووحشية ودموية من سابقتها في المعارك ونوعية الأسلحة والمساحة الجغرافية التي شملتها.
فرنسا وإنجلترا خرجتا من الحرب العالمية الثانية مرة أخرى بين المنتصرين، لكن بفارق استراتيجي مهم هو الارتماء في الحضن الأمريكي الذي وضع شروطه ومتطلباته فوق كل اعتبار.. نظام أممي بإشراف الأمم المتحدة التي لم تختلف كثيرا في بنيتها وأهدافها وتطلعاتها عن سابقتها عصبة الأمم، بفارق اختلاف اللاعبين ومكان ترتيب الطاولات الاستراتيجية التي تشكلت أمريكيا وروسيّا.
النظام القطبي الثنائي والحرب الباردة ثم تفكك الاتحاد السوفيتي وفرص الأحادية الأمريكية في النظام العالمي الجديد التي أهدرتها واشنطن؛ بسبب الخيارات والسياسات الخاطئة في قراراتها الإقليمية .
بعد سبعة عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية ما زالت مشاريع الاصطفاف الإقليمي والدولي، وما زال العالم منقسما إلى قسمين: عالم ينعم بالرفاهية والاستقرار والتحكم بمراكز النفوذ والقرار، وعالم آخر فقير ضعيف مفكك لم يغادر حلقة الاستسلام للقوي وقراراته كما هي الحال اليوم في منطقة الشرق الأوسط.
خيانة الحلفاء للعرب، والنكث بسلسلة الوعود التي قدمت حول الاستقلال، واتفاقية سايكس ــ بيكو بصدد تقاسم المنطقة بين فرنسا وبريطانيا، ثمّ وعد بلفور البريطاني لإقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين، كانت بين أبرز الآثار الكارثية على شعوب الشرق الأوسط، ومع ذلك ورغم أن مسؤولية الكبار وسياساتهم وحساباتهم تحمّل دول المنطقة وشعوبها الكثير من الأعباء، فإن مسؤولية شعوب المنطقة وقياداتها لا تجنبها المسؤولية الأولى في إخراج دولها من هذه الحالة .
وهنا تبرز أهمية الحدث الدولي الآخر والحقيقة الأخرى التي لا يمكن التخفيف من قيمتها وأهميتها الاستراتيجية، ففي الوقت الذي كانت القيادات السياسية العالمية تحتشد فيه أمام قوس النصر الفرنسي بمنتدى للسلام يسعى إلى تعزيز نهج تعددي للأمن والحكم وتجنب الأخطاء التي أدت إلى اندلاع الحروب العالمية، كانت العاصمة الإماراتية أبوظبي تستضيف فعاليات "ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الخامس"، وسط مشاركة دولية واسعة من صناع القرار وخبراء تحليل السياسات .
رسائل أبوظبي دعت إلى المزيد من الاعتدال والتسامح والتعاون واحترام حق السيادة والتعددية، لكنها ذكّرت دول المنطقة وشعوبها بدورها التاريخي في تحمل مسؤولية بناء القوة الإقليمية الجديدة، لتكون جزءا من نظام التعددية القطبية والحاجة إلى تحالف عربي حقيقي لمعالجة التحديات والأخطار القائمة .
رئيسة مركز الإمارات للسياسات ابتسام الكتبي تقول: إن الوقت قد حان لصياغة الدول العربية مبادرات لحل مشاكلها بنفسها أمام سياسة أمريكية لا تكترث إلا بمصالحها، وأمام طموح روسي وصيني يريد التوسع ويحاول أن يجد موطئ قدم له في المنطقة .
كيف سيكون المستقبل في العديد من دول المنطقة التي ما زالت تعاني، ومنذ سنوات، من السير نحو المجهول وترك قدَرها على كف عفريت وبيد مجموعات من أصحاب العقول المتطرفة والمتشددة؟
صحيح أن سياسات الكبار كانت دائما تهدف للتفريق والشرذمة، لكن الصحيح أيضا أن شعوب المنطقة رضخت لقدرها هذا دون التعامل بواقعية وعملية مع المتغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية المحيطة بها، والبعض استسلم لذهنية فتح الطريق أمام شعارات وسياسات مذهبية، وبناء حواجز عرقية وحدود دينية أسهمت في المزيد من المشاكل والأزمات التي لا يحتاجها أحد.
سؤال: هل تراجعت احتمالات وقوع الحروب العالمية مجددا؟
خبراء الأمن الاستراتيجي يرون أنه من بداية القرن الخامس عشر وحتى اليوم، وقعت العشرات من الأزمات التي تحولت إلى مواجهات وحروب إقليمية، وأن احتمالات وقوع المزيد من الاحتكاكات قائمة إذا لم نشأ القول إنها تتزايد.. الأسباب ليست فقط عسكرية أو أمنية بل اقتصادية واجتماعية ودينية، وهي قائمة أصلا على شكل حروب باردة جاهزة للانفجار في أية لحظة .
تصادم روسي أمريكي في سوريا أو أوكرانيا أو مواجهة أمريكية صينية في آسيا، يمكن أن يطلق شرارة الحرب العالمية الثالثة. دون أن نهمل حصة ودور المجاعات والكوارث الإنسانية وحركات الانتقال السكاني الكبيرة بين الدول واصطفافات الحرب على الإرهاب، وتفاعلات توتر ملفات الطاقة واستخراجها وتقاسمها، إلى جانب حروب العملات والخطط التجارية والهيمنة على البقع الجغرافية الاستراتيجية، من الممكن أن تتسبب بموجات انفجار أكبر وبكثير مما شهده العالم في الأربعينيات .
منتدى باريس كان فرصة لتبادل الأفكار حول أهمية السلم العالمي، لكن في التطبيق والممارسات الأمور تذهب بمنحى آخر معاكس تماما.. "ثقافة الحرب " ما زالت تعشش في أذهان البعض هم لا يريدونها لأنفسهم، لكنهم يجهدون لنشرها وتعميمها وفرضها على الآخرين إذا ما كانت قوتهم تسمح بذلك .
العالم يسير نحو التعددية القطبية والتكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية على حساب دور ونفوذ منظمة الأمم المتحدة، والمسؤول عن ذلك ليس اللاعبون الكبار الذين لا يتنازلون عن أي جزء من مصالحهم ونفوذهم، بل غالبية دول العالم التي بيدها الأكثرية تحت سقف الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنها غير قادرة على إلزام مجموعة صغيرة من الدول باحترام ما تقوله وتريده تحت سقف هذه المنظمة الدولية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة