سقوط حزب الحرية والعدالة السريع أنبأ عن عدم الخبرة السياسية، فضلا عن خبرة العمل والحياة، ناهيك عن الأخلاق.
حين ينتمي الحزب إلى الأيديولوجيا أكثر من انتمائه إلى الوطن، يتجه بالوطن وأهله إلى مسارات كارثية. يصبح حينئذ أسير الفكرة الواحدة، وهي، علمياً ومنطقياً، لا تصلح، لا يمكن أن تصلح، لكل الأزمنة والأمكنة والأحوال المتغيرة، وبالتالي لا تصلح ليوم غد وما بعده، ما يحول المنظومة كلها إلى كيان متخلف يلهث وراء اللحظة، لكنه لا يلتقطها أو يقبض عليها، وعلى الرغم من ذلك يطرح نفسه باعتباره صاحب الأجوبة القطعية عن كل الأسئلة الصعبة.
يطل خطر مثل هذه الأحزاب محدوداً ومسيطراً عليه حتى يحكم، فإذا حكم عبر بالصوت العالي والفعل المدوي عن أفكاره الظاهرة والكامنة، ونزواته السياسية بكل تجلياتها، وقد رأينا شواهد ذلك في تجارب متتالية يتصل بعضها بالبعض الآخر لجهة النشأة والمورد أو الصيرورة والكينونة، والخلاصة أنها شربت من رأس النبع نفسه، ويبدو أنه لم يكن نقياً أو صافياً.
خذ من نظام «الولي الفقيه» في إيران مثالا كأنه حكاية الدليل الدامغ. ليس إلا الحزب وإن تعددت الأسماء. ليست إلا الفكرة الحزبية الضيقة تربط بين إيران وقطر ومليشيا الحوثي وحزب الله اللبناني. الحزب هناك الذي يتكلم، فيحول الحزب إلى دولة، والدولة إلى حزب.
تتشابه هذه الأحزاب بل تتماثل في كونها تقصي وتلغي غيرها من أحزاب أو أفكار، فيكون وصولها إلى الحكم إيذاناً أو محاولة إيذان بالبقاء، وحين وصل تنظيم الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، عبر عن فقدان العقل والرشد بتصور أنه باقٍ إلى الأبد، وبدا كما لو كان مرسي رئيساً صورياً بالرغم من ادعائه أنه أصبح رئيساً لمصر، في إشارة منه إلى أن مصر ليست الحزب، وأنه رئيس مصر كلها، ولم يقوَ هذا الكلام على الصمود حتى لأسابيع، فظهرت أدوار لقيادات ورموز الحزب من خيرت الشاطر إلى البلتاجي إلى عصام العريان، وفي ما يخص علاقة مصر النظام ودولة الإمارات لعب أولئك في سنة حكم الحزب المشؤومة أدواراً معطلة ومسيئة، معبرين عن روح وتوجهات الحزب لا الوطن، مستعيرين أقنعة الحزب، وواضعين على أجسادهم جلد الحزب، وعلى وجوههم وجه الحزب.
من القرائن الدالة زيارة وفدهم دولة الإمارات للتوسط في الإفراج عن 19 مصرياً اتهموا في القضية المعروفة إعلامياً بقضية «الخلية الإخوانية المسجلة تحت الرقم 13 / 2023 جنايات أمن دولة، ضمن 30 متهماً، عشرون منهم من الإمارات والحادي والعشرون مصرياً هارباً، ومن تهمها ضمن إحالة نيابة أمن الدولة التعاون مع التنظيم السري غير المشروع الذي أدين في قضيته من أدين، وبرئ من برئ قبل ذلك. وفد «الإخوان» متمثلاً في وفد حزب «الحرية والعدالة» طالب بالموقوفين من المنتمين للحزب، وقيل له يومها: في المنشآت العقابية الإماراتية 350 نزيلاً مصرياً بتهم جزائية ومدنية مختلفة، فلماذا تطالبون فقط بمن تطالبون بهم دون غيرهم؟
وقالت الإمارات: "نحن مع مصر الوطن والدولة، ولسنا مع مصر الحزب، ولسنا مع الحزب الواحد يقدم نفسه كما لو كان مصر".
سقوط حزب الحرية والعدالة السريع أنبأ عن عدم الخبرة السياسية، فضلاً عن خبرة العمل والحياة، ناهيك عن الأخلاق، وناهيك عن الدولة العميقة التي لم تقبل بأهل أطماع حزبية ضيقة وقليلي أو عديمي خبرة أن «يختطفوا» الدولة المصرية، فكان أن عادوا إلى جحورهم أو رأتهم العدالة مذنبين.
في الأنموذج التركي لم يكن حزب «العدالة والتنمية» برئاسة طيب رجب أردوغان كياناً هشاً أو قوساً يوضع على المبنى من خارج كما حدث في مصر، لكنه تبنى ويتبنى التوجهات ذاتها: الحزب وجهاً للدولة، وقوة الدولة إنما منذورة ومكرسة لقوة الحزب، والحزب الحاكم، في كل قول أو فعل، يذهب إلى تخوين غيره ومخالفيه، والإقصاء بل الإلغاء جزء أصيل من أدبيات النظام.
وفي مثل هذه الأيام من عام 2016 رأى الحزب في انقلاب منتصف الليل الفاشل فرصة للانتقام من الجميع، وفرصة للتخلص من مئات الآلاف، من بينهم ضباط جيش وشرطة وأكاديميون ومعلمون ومهندسون وأطباء وإعلاميون وكتاب وموظفون كبار وصغار، فلم تكن الدولة التي تتصرف، وإنما الحزب الذي اختطف الدولة أو احتلها.
ومن أخذ يوزع الاتهامات على الخارج والداخل هو الحزب وقد تقمص دور الدولة، ومن تبنى سياسة خارجية انتهازية بهذا الشكل الواضح المقرر هو الحزب وليس الدولة، بل قل هو الحزب وقد أصبح الدولة والوطن والضمير والمصير، وفيما تعتبر المعارضة في الديمقراطيات العظمى كبريطانيا والهند جزءاً من النظام ومنظومته، لا تمثل المعارضة في الدول الحزبية الخالصة الظل أو حتى ظل الظل.
في الصلة بين حزبي مرسي وأردوغان كانت لغة هذا الأخير وهو يرثي الرئيس المعزول لغة دالة على ما يراد هنا، وإذا كان من حق السلطان العثماني الجديد أن يترحم، بطبيعة الحال، على مرسي متوفياً، أو يقيم له صلاة الغائب في جميع مساجد تركيا، أو يشارك هو، شخصياً، في الصلاة، فليس من حقه وهو رئيس الدولة التركية، أن يتهم الدولة المصرية أو الرئيس السيسي بباطل الاتهامات، لكن يبطل العجب لدى إدراك الحقيقة، فالذي يتكلم هنا على لسان أردوغان الحزب لا الدولة، ويمكن أن يقال الحزب وقد بات وجه الدولة المطلق.
وخذ من نظام «الولي الفقيه» في إيران مثالاً كأنه حكاية الدليل الدامغ. ليس إلا الحزب وإن تعددت الأسماء. ليست إلا الفكرة الحزبية الضيقة تربط بين إيران وقطر ومليشيا الحوثي وحزب الله اللبناني. الحزب هناك الذي يتكلم، فيحول الحزب إلى دولة، والدولة إلى حزب.
قال الله تعالى في القرآن العزيز: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعقلون} (41 العنكبوت).
بمعنى من المعاني، بل بكل المعاني، تنبئ الدولة الحزب عن فكرة «بيت العنكبوت»، فلهذا البيت تنويعاته في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، وعندما انهار الاتحاد السوفيتي السابق كان الحزب الواحد الذي صارت إليه الدولة هو العلامة، علامة الاسم الضخم يكتب بحبر المحو أو يكاد، وهل كانت العراق أو سوريا، في المثال الأقرب، تحت حكم الحزب الواحد، إلا نبوءة ما حدث ويحدث؟
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة