السمّ الذي حاول أردوغان أن يطبخه لإمام أوغلو وحزب الشعب الجمهوري انقلب عليه، وتجرّعه هو.
ليس من مثل ينطبق على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من المثل القائل: «طابخ السمّ آكله».
في 31 مارس/آذار الماضي، انتصر مرشح حزب الشعب الجمهوري والمعارضة، أكرم إمام أوغلو، في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى. كان الفارق 30 ألف صوت. لكن حزب العدالة والتنمية اعترض على النتائج وهزيمة مرشحه بن علي يلديريم، وطالب بإعادة احتساب الأصوات في مئات الصناديق. ومع ذلك لم تتغير النتيجة، رغم أن الفارق نزل إلى 13 ألف صوت.
ولم يتقبل أردوغان النتيجة، وقال لحاشيته إنه يمكن الفوز في حال إعادة الانتخابات، وكان واثقاً من ذلك. وتقدم حزب العدالة والتنمية بطعن بحجة واهية جداً، وهي أن بعض الأقلام كان يتولى رئاستها أشخاص غير موظفين رسميين. وتواطأت اللجنة العليا للانتخابات مع أردوغان، فقررت إبطال الانتخابات وإعادتها في 23 يونيو/حزيران.
دخلت تركيا بعد 23 يونيو/حزيران 2019 مرحلة جديدة من تاريخها يتوقف على أداء أكرم إمام أوغلو، ووحدة المعارضة، ووعيها ما ستصل إليه من تطلعات للتغيير والديمقراطية والعدالة في الداخل، والسلام، والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى في الخارج.
وجرت الانتخابات الأحد الماضي، وكانت النتيجة من دون مبالغة مزلزلة بالفعل. ارتفعت نسبة التصويت لإمام أوغلو من 48 إلى 54%، وتراجعت النسبة مع يلديريم من 48 إلى 45%، واتسع الفارق من 0.3% إلى 9%. وبدلاً من فارق الـ13 ألفاً ارتفع إلى 777 ألف صوت، أي ستين مرة أكثر من قبل.
وأسقط بيد أردوغان، وبن علي يلديريم، فاعترفا فوراً بالنتيجة التي لم تترك مجالاً لأي طعن، وشك، وشبهة.
السمّ الذي حاول أردوغان أن يطبخه لإمام أوغلو وحزب الشعب الجمهوري انقلب عليه، وتجرّعه هو.
اعتاد أردوغان أن يتجاوز كبواته. ولكن الجرح الذي نال من السلطان كان هذه المرة بليغاً وعميقاً، بحيث لن يسهل عليه لأمه بسهولة.
وتأتي هزيمة أردوغان نتيجة خطأ تكتيكي كبير ارتكبه، وهو ناتج عن طبيعة شخصيته الإلغائية، والإقصائية للآخرين، وعدم الاعتراف بالرأي الآخر. فلو أنه اعترف بنتائج أول دورة لكان فوز إمام أوغلو على أهميته الكبيرة، ليس كبيراً، والفارق كان 13 ألف صوت فقط، من أصل تسعة ملايين صوت. ولكان استطاع أردوغان أن يحاصر إمام أوغلو بنسبة الفوز الضئيلة.
لكن المكابرة التي يتصف بها أردوغان جعلته يعتقد أنه قادر على أي شيء، فلم يقرأ المتغيرات، ولا تحول المزاج الشعبي على الأقل في المدن الكبرى. لكن نتائج انتخابات الإعادة قلبت السحر على الساحر، وأسقطت أردوغان من على صهوة جواد كان يريد أن يمتطيه ليصل إلى آخر نقطة وصل إليها أجداده، على ما كان يردد. لكن الجواد خذل فارسه قبل انطلاقة الشوط، وفي نقطة البداية، أي إسطنبول التي كانت قرة عين أردوغان منذ عام 1994. لكنه لم يحافظ على وفاء أهل المدينة. فاستخدم حزبه أموال المدينة، وهي 30 في المئة من الناتج القومي التركي، في مشاريع الحاشية، والمآرب الشخصية، وانتشر الفساد، وزجّ بعشرات الآلاف من أبناء المدينة في السجون بتهمة المشاركة في الانقلاب العسكري عام 2016، وضرب بسياساته القيمة الشرائية لليرة التركية، وتراجعت المؤشرات الاقتصادية، حيث وصلت نسبة البطالة إلى 15 في المئة، وبين الشبان إلى 25 في المئة.
خسارة إسطنبول أكبر بكثير من مجرد خسارة مدينة:
1- انهزم أردوغان لأنه اعتاد على الفوز في ظل انقسام المعارضة. لكن المعارضة توحدت كما ليس من قبل.
2- تمرد قسم مهم من قاعدته وفي إسطنبول بالذات، حيث انتقل 400 ألف صوت من حصة بن علي يلديريم إلى أكرم إمام أوغلو خلال أقل من شهرين، وهي رسالة قوية إلى أن حزب العدالة والتنمية يشهد تمرداً على أردوغان، وفي أكثر الانتخابات حساسية بالنسبة إلى الأخير.
كان يمكن لأردوغان أن يفهم ويتفهم هذا التمرد، لكن في أي مدينة خلا إسطنبول. وهذا الواقع الجديد يمكن أن يفتح أمام تمردات جماعية سياسية تنتهي إلى تشكيل بنى سياسية مستقلة تأخذ من قاعدة حزب العدالة والتنمية، وتضعف رئيسه بالتأكيد.
3- باتت لعبة أردوغان في سياسة «فرّق تسد» مكشوفة. والناخب الكردي في إسطنبول لم تمرّ عليه خدعة استنجاد أردوغان بعبدالله أوجلان في سجنه، رافضاً الرسالة التي قيل إن أوجلان كتبها ودعا فيها إلى حياد الناخب الكردي. فكان التصويت الكردي أكبر من الدورة الأولى.
4- شكّل أكرم إمام أوغلو ظاهرة جديدة في السياسة التركية، ما يجعل انتصاره في إسطنبول ركيزة مهمة ليكون منافساً قوياً وجدياً لأردوغان في انتخابات الرئاسة عام 2023.
5- كان أردوغان يستقوى بنتائج الانتخابات المحلية ليظهر نفسه زعيماً قوياً أمام الرأي العام الدولي. أما اليوم فصورة أردوغان الضعيف داخلياً سوف تنعكس على سياساته الخارجية، وتزيد من الضغوط عليه.
دخلت تركيا بعد 23 يونيو/حزيران 2019 مرحلة جديدة من تاريخها يتوقف على أداء أكرم إمام أوغلو، ووحدة المعارضة، ووعيها ما ستصل إليه من تطلعات للتغيير والديمقراطية والعدالة في الداخل، والسلام، والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى في الخارج.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة