الكلام الجاد والمعقول الذي لا يرفع الصوت بالشعارات سوف يؤدي إلى انقسامات فورية بين المشاركين في المظاهرة.
الدستور المصري ينص على حق التظاهر "السلمي"، ويكاد يكون ذلك منصوصا عليه في الأغلبية من الدساتير العالمية في صياغات مختلفة، وفي الاتفاقيات والمعاهدات الدولية أصبح ذلك حقا من حقوق الإنسان. والحكمة في الموضوع هو أنه من الجائز أن يكون احتكار السلطة من القوة السياسية والاقتصادية والأمنية إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها المواطن الحصول على حقوقه، فيكون "التظاهر" نوعا من الاستعانة بالجماعة للتعبير عن هذا الظلم، والمهم في الأمر أن يكون هذا التعبير بطريقة "سلمية". وكما نصت القوانين على حق التظاهر طالما كان سلميا، فإنها أيضا وضعت قواعد للأمر في المكان والزمان بحيث يكون هناك توازن ما بين حق المواطن في التعبير، وحق المواطنين في ممارسة حياتهم بطريقة طبيعية دون إخلال أو مقاطعة.
الأرجح دائما أنه سوف تكون هناك استحالة لكل كلام جاد، ليس لأن المتظاهرين غير جادين بطبعهم، وذلك وارد على أي حال، وإنما لأنهم يعرفون أن الكلام الجاد والمعقول الذي لا يرفع الصوت بالشعارات سوف يؤدي إلى انقسامات فورية بين المشاركين في المظاهرة
المعضلة في هذا الأمر أن الواقع يكاد لا يأتي بصيغة سلمية للمظاهرات، فأصحاب "السترات الصفراء" في فرنسا سرعان ما انتهت "سلمية" مظاهراتهم وبدأ الاعتداء على المحلات العامة، ونزع الأحجار من الشوارع لإلقائها على رجال الأمن، ولم يترك حائط في قلب باريس إلا وجرى تلوثه بالشعارات، ولم يمضِ وقت طويل حتى لحق بالأدوات البدائية قنابل "المولوتوف" سريعة الاشتعال والحرائق، والتي يمكن استخدامها في مقاومة الدبابات.
في "هونج كونج" لم يختلف السيناريو كثيرا، فقد بدأت المظاهرات هي الأخرى "سلمية"، ولكن الجمهور سرعان ما بدأ يستخدم أدوات للقوة، ومع الإرهاق وصلت الجمهرة إلى قنابل "المولوتوف" وإشعال الحرائق في صناديق القمامة، بحيث يختلط فيها الدخان بالروائح الكريهة. بالطبع فإن هناك جماهير تختصر الطريق منذ البداية وتنتقل مباشرة من الحالة السلمية إلى الحالة العنيفة التي تنشر النار واللهب، وكان ذلك ما جرى في حالات تمت في مدن أمريكية متعددة حينما بدأت المظاهرات من حيث انتهى الآخرون، حيث زجاجات "المولوتوف"، وانتهت إلى حالة ثورية من الحرب الأهلية، وأنصار منح حق الإجهاض للنساء باعتبار ذلك من حرية تصرف الإنسان في جسده، وهؤلاء الذين يرون أن في الأمر جريمة ضد إنسان آخر لم يولد بعد. وفي هذه الحالات كلها فإن الاستخدام العنيف للتظاهر أتى في نظم "ديمقراطية" كان ممكنا فيها السعي لتحقيق المطالب من خلال صناديق الانتخابات.
المظاهرات الجارية حاليا في العراق والتي راح ضحيتها حتى وقت كتابة هذه السطور ثمانون قتيلا، ولم يعرف عدد الجرحى فيها، ولكن صور المظاهرات احتوت على مَن يحمل عصيانا غليظة، ومَن يستخدم الأحجار، وبالطبع كانت زجاجات الحريق في الأيدي، بينما آخرون يرددون الشعارات العالية. في العراق جرت 3 انتخابات ديمقراطية من قبل كانت كافية لتعديل أوضاع معوجة لم يجر قطع الأمر فيها إلا في لحظة التظاهر. العراقيون ساخطون على أمور كثيرة على النخبة السياسية والسياسات العامة والمحاصصة، وعلى الإيرانيين، وعلى الأمريكيين. وكان لافتا للنظر أن المتظاهرين رفعوا شعارات سبق رفعها أيام ما سمي "الربيع العربي"، فكان الشعار "أن الشعب يريد إسقاط النظام". وفي الإكوادور مؤخرا جرت المظاهرات المضادة لعمليات الإصلاح الاقتصادي وتنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي الذي يتضمن رفع الدعم عن السلع الغذائية والوقود والذي وافقت عليه الحكومة المنتخبة.
إذا كان كل ما سبق يمثل حركات جماهيرية مضادة للسياسات العامة في بلادها، فإن هناك أنواعا أخرى من التظاهر تكون لمطالب عالمية؛ فانتابت دول العالم وعواصمها الرئيسية خاصة مظاهرات عارمة تطالب لا بتخفيض الأسعار، أو رفع الأجور، أو إسقاط النظام، وإنما بحماية الكرة الأرضية من الاحتباس الحراري الذي يذيب القطب الشمالي ويرفع الماء في البحار والمحيطات فيغرق الجزر ويدمر الزراعة. المدهش جرى في لندن عندما قام المتظاهرون بنزع بلوكات الأرصفة الخرسانية لكي يستخدمونها كسلاح ضد الشرطة وضد الذين يريدون بقاء الكوكب على ما هو عليه.
الشائع في مثل هذه الحالات أن سبب استخدام العنف هو عدم تحقيق المطالب من ناحية، وقسوة قوات الأمن من ناحية أخرى. في حالتي "السترات الصفراء" في باريس، والسترات غير الصفراء في هونج كونج فإن المطالب الاقتصادية جرى تلبيتها في الأولى، وجرى إلغاء القانون الذي يسمح بنقل الحالات الجنائية إلى المحاكم الصينية في الثانية وبقي الأمر على حاله، ومع ذلك لم يتوقف إشعال النيران.
المظاهرات عادة فيها آلية خاصة بها تنقلها من مطلب إلى الآخر سواء كان البلد ديمقراطيا مثل فرنسا، أو انتقاليا مثل العراق والإكوادور، أو من أصحاب الحالات الخاصة مثل هونج كونج والجماعات الخضراء لكوكب الأرض. هي في الأول والآخر ظاهرة جماعية يذوب فيها الفرد داخل الجماعة، حيث يستمد منها قوة خارقة، فالصوت العالي هو صوته، والعضلات الجماعية هي عضلاته، وكثافة الأحجار وانتشار النيران فيها شعور بالقوة والسيطرة وفرض الإرادة على الآخرين. الجماعة في العادة لا تفكر كثيرا لا في الدستور ولا في القانون ولا في حق التظاهر اللهم إلا في مواجهة قوة غالبة بعضها قومي محلي وبعضها الآخر عالمي، وساعة الحديث مع وسائل الإعلام المختلفة التي نادرا ما تسأل المتظاهرين عن سبب إشعال الحرائق. وعندما نشبت "ثورة يناير" المصرية، وفي يومها الرابع عندما أصبح يوم الجمعة يوما للغضب فإن النار اشتعلت في مبنى الحزب الوطني الديمقراطي، ولم يطلب أحد لا نجدة ولا سيارة إطفاء. لن يعرف أحد أبدا مَن كان صاحب المسؤولية والقرار في إشعال النيران، ومن ثم لم تكن هناك محاسبة لأحد ممن ثاروا حتى يُحاسب آخرون، وعندما ذهب الجميع بعيدا عن كاميرات التلفزيون فإنهم أشعلوا النيران في أقسام للبوليس، وكنائس، ومجمعات للمحاكم، ومبانٍ للحزب، ومحلات ومركز "أركاديا" التجاري.
الشائع أيضا أن هناك تفرقة بين "الظاهرة الجماعية" و"المظاهرات"؛ حيث الأولى لا ينظمها قانون ولا معاهدة دولية وهو ما يحدث في الثانية، ومع ذلك فإن الواقع العملي يشهد بأن المظاهرة هي حالة من حالات الظاهرة الجماعية التي تتصرف فيها الجموع وفق غرائزها ومشاعرها الخام وحالتها النفسية، حيث توجد ندرة في التحكم فيها. أدوات التواصل الاجتماعي هي التعبير المعاصر عن هذه الحالة من فيض المشاعر وغياب العقول والتفكير. فالحالة التظاهرية ليست مؤتمرا لتعريف المصالح الوطنية أو ورشة عمل لإصدار توصيات في أمر يهم الإنسانية، هي حالة في عمومها تعبر عن هياج في المشاعر والتي لا يمكنها أن تفرز رؤية أو توصية أو برنامجا للعمل لتلافي الحالة المغضوب عليها.
الأرجح دائما أنه سوف تكون هناك استحالة لكل كلام جاد، ليس لأن المتظاهرين غير جادين بطبعهم، وذلك وارد على أي حال، وإنما لأنهم يعرفون أن الكلام الجاد والمعقول الذي لا يرفع الصوت بالشعارات سوف يؤدي إلى انقسامات فورية بين المشاركين في المظاهرة. المتظاهرون عادة أيضا لديهم معضلة كبيرة مع الانتخابات، ففي المظاهرات هناك حالة من المساواة، فالجميع أفراد كل منهم يحمل لافتة أو يرفع صوته بالهتاف. صحيح هناك أقلية متميزة ترفع على الأعناق لكنها في العادة يجري اختيارها لخصائص خفة الوزن وارتفاع الصوت، وبعد ذلك لا شيء يقود أو يلهم. ولكن الانتخابات تفرز أغلبية وأقلية، وفي كل منهم يوجد تيار رئيسي وبعد ذلك جماعة على اليمين وأخرى على اليسار، تنتهي حالة "الكل في واحد" ويصير على الجماعة أن تقوم بعمل سياسي جاد بعد فوات الأوان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة