لو قُيّض لألمانيا أن تستقبل مليون مهاجر جديد، دون ضجيج سياسي، لفعلت.
السبب الرئيسي لا يتعلق، فقط، بعجز سكاني، حيث تتراجع الولادات، بينما تتراكم أعباء صناديق التقاعد بسبب الأعمار الطويلة للسكان، بل لأن نموذجها الاقتصادي يمتص أيدي عاملة، ولأن شركاتها تتوسع في أعمالها بمقدار ما يتطلب سوق الداخل والخارج.
هذا النموذج قائم، في ركيزته الأساسية، على التصدير، لا الاستهلاك كحال النموذج الأمريكي، ولا الخدمات كحال النموذج البريطاني.. وبسبب طبيعته تلك، فإنه أكثر انفتاحا على الخارج، ويستطيع استيعاب التعددية ويستفيد منها.. ومشكلاته خارجية، لأنها تتصل بسلاسل الإمداد أكثر مما تتصل بالتنافس الداخلي على الوظائف.
تستطيع أن تفهم، بسبب هذا الفارق، لماذا تستقبل ألمانيا مهاجرين، بينما تطردهم بريطانيا، حتى بات هذا البلد يضيق ذرعا بمواطنيه أنفسهم، وهم يضيقون ذرعا به، حتى هجره مليونان منهم ليعيشوا في باقي أرجاء أوروبا؟
معظم المهاجرين، الذين استقبلتهم ألمانيا خلال الموجات السابقة، يستقرون الآن في وظائف.. ويعيشون في مأمن اجتماعي وضمانات حياتية ويمكنهم التخطيط لمستقبل أطفالهم.
وهذا الواقع يمكن أن يستمر لعدة سنوات مقبلة.. أي لسنوات تكفي لكل طامح إلى الهجرة أن يفعل شيئين فقط، ويحاول في الثالث، ليضمن لنفسه مكانا في مجتمع مزدهر.
الشيئان هما: أن يتقن مهنة من مهن المهارات الفردية، وخاصة تلك التي توفرها المعاهد المهنية على مختلف أنواعها.. وأن يتعلم اللغة.. فيوفر المهاجر على جهة الاستقبال بعض عناء التأهيل والتعليم وتكاليفه ووقته.
هذه هي الوصفة. وهي غير معقدة، كما أنها ليست مكلفة.. والكثير من أوجه التعلم مجانية أصلا.
هذه الوصفة توفر على الساعي إلى الهجرة الكثير من المتاعب، وهو لا يحتاج بفضلها إلى أن يتعامل مع مهربين، ولا أن يغامر بحياته في قارب قد يغرق به وبغيره، ولا أن يدفع جني شقائه كثمن للرحلة.
هذه الوصفة توفر أيضا على الساعي إلى الهجرة الكثير من الاضطراب الذهني حول ما يجب أن يفعل لنفسه إذا ما شعر أن موطئ قدميه يضيق عليه.. كما أنها تيسّر له تقديم طلب رسمي للهجرة، فيدخل البلاد، التي يرغب في الوصول إليها، محترما وآمنا ومطمئنا.
العَنوة، معضلة حقيقية بالنسبة للألمان، كما لغيرهم أيضا.. يوجد لك مكان.. ولكن لا تدخله عَنوة.. هم يعتبرون الأمر سلوكا همجيًّا.. ما يشكل عامل صدٍّ مسبق للقبول بالمهاجر.
يستطيعون تفهم أسبابك للهجرة، ولكن العَنوة تجعلهم لا يتفهمون وسائلك.. وبالنسبة لمجتمع آمن ومستقر، فإن مسالك العنوة تثير الخوف أيضا.. وفي بيئات خارجية تنطوي على قائمة طويلة من المخاطر، فإنها تزيد التحفظات حيالك، وتستجلب الخشية من أغراضك.
وهذا ما يقود إلى الأمر الذي يتعين على الساعي إلى الهجرة أن يحاوله.. والوجه الأهم فيه هو أن يسعى إلى التخلص من أمراض المجتمع الذي يريد أن يهجره.. ليس بمعنى أن يرتدي للمجتمع الجديد ملابس جديدة، وإنما أن يتطهر من أمراض العنف والتطرف والغضب والقسوة والشك والخوف وسوء الظن والكذب والاحتيال.
حاول أن تسلك سلوكا قويما، وأن تتجسّده، لا أن تدّعيه.. لماذا؟
لأن مجتمعك الجديد لم يتطور إلا لأن لديه وسائل كافية لاكتشاف كل هذه الأمراض ونبذها وتطهير نفسه منها.
لا تحتاج إلى أن تضع نفسك في موقف يجعل رفض بقائك أمرا معقولا.. حاول أن تكسب المعقولية بأن تكون عاقلا، بدلا من أن تجعلها ضدك.
كثير ممن تم رفض بقائهم في ألمانيا، بعد سنوات من إقامتهم الفاشلة فيها، إما أنهم لم يتعلموا لغتها، وإما لأنهم يفضلون القيام بأعمال رثة، فيتقاضون أجورا لا يصرحون بها، وإما لأنهم يكذبون أو يرتكبون مخالفات متكررة.. وهي مظاهر تدل على شيء واحد، هو أنك جئت إلى هذا البلد من أجل أن تستجدي معوناتٍ اجتماعية، لا من أجل أن تبني حياة مستقرة وآمنة لنفسك أو لأسرتك قائمة على قيم الاحترام والعمل.
المجتمع الألماني، كغيره من المجتمعات المتقدمة، هو مجتمع عمل.. اجلس على البلكون قبل الفجر بساعة، وسترى أضوية المنازل تشع واحدا بعد الآخر، ليخرج أهلها إلى العمل والشمس لم تشرق بعد.. وهم يريدون من المُهاجر إليهم أن يتصرف مثلهم.
هناك مثل شائع في أوروبا يقول: "إذا كنتَ في روما، فتصرف كالرومان".
بكلام آخر: دع تصرفات العنوة والقسوة والكذب وراء ظهرك، وستجد الباب رحبا!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة