أثارت المناظرة الانتخابية التي جرت صباح يوم الجمعة الماضي بين مرشحي الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب (الرئيس السابق) وجو بايدن (الرئيس الحالي)، ردود فعل واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ردود فعل كانت بسبب ما كشفته المناظرة من دلالات حول الحالة الصحية والذهنية لكلا المرشحين، وما يعنيه ذلك من أهمية للناخب الأمريكي في قراره بالتصويت لأي منهما.
لكن أهمية المناظرة لم تأتِ فقط من البعد الشخصي وارتفاع عمر كل من بايدن (81 عاماً) وترامب (78 عاماً) وهو أكبر عمر لمرشحين رئاسيين عبر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما من خلال تركيز كلا المرشحين على تبادل الاتهامات في القضايا الشخصية وزلاتهما الأخلاقية بعيداً عن القضايا السياسية والاقتصادية التي تهم الشعب الأمريكي.
والمناظرات هي تقليد متبع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ عقود وتلعب دوراً في توجيه شرائح محددة من الناخبين، خصوصاً أولئك الذين ليس لديهم ولاء لمرشح بعينه أو التزام لحزب ما. وهم شريحة مؤثرة وتكون عادة قادرة على تغيير نتائج الانتخابات حسبما تتجه أصواتهم المتأرجحة، والقابلة لتبديل وجهتها حتى الأيام الأخيرة قبل التصويت.
وفي الانتخابات السابقة 2020 التي جرت بين المرشحين نفسيهما (بايدن وترامب) كان للمناظرة تأثير مهم في إبراز الفارق بينهما لصالح بايدن في الحنكة السياسية والخبرة العملية المتراكمة.
بالمقارنة بين المناظرتين الأخيرتين (مناظرة عام 2020 ومناظرة يوم الجمعة الماضي 28 يوليو/تموز 2024)، نجد أن مناظرة عام 2020 تميزت بوجود تصور واضح لكيفية التعاطي مع معظم القضايا الانتخابية المثارة في ذلك الوقت.
حينذاك، ظهر ترامب مغامراً أقرب إلى التهور والاندفاع. وافتقد كثيراً إلى الحكمة السياسية والطابع الرصين لرجل الدولة. وهو ما أكد مخاوف الناخبين من استمراره في سياساته الراديكالية والانفراد بالقرارات والصدمات التي أحدثها في كثير من التوجهات الأمريكية خصوصاً في علاقاتها الخارجية.
وكانت أفكار وتوجهات ترامب غير المعتادة في الواقع الأمريكي، حاضرة بقوة في المناظرة، خاصة فيما يتعلق بالخروج عن الآليات المستقرة في السياسة الأمريكية. فمثلاً، تهرب ترامب من الالتزام بقبول نتائج الانتخابات المقبلة. وهو ما يثير المخاوف مجدداً من تمرد محتمل من جانب ترامب على انتخابات 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل ونتائجها، في الوقت ذاته الذي نفى مسؤوليته عن أحداث اقتحام الكونغرس الشهيرة.
أما في المناظرة التي جرت يوم الجمعة الماضي، سارت الأمور على نحو مختلف، فقد غلب فيها الطابع الشخصي والذاتي على المستويين العملي والعام. سواءً في أداء كل من المرشحين، أو في النقاط التي حاول كل منهما استعراض قوته وضعف خصمه فيها.
فكان تركيز بايدن على تضخيم الاتهامات الموجهة لترامب بالكذب والتحايل وإخفاء معلومات، وتصويرها كعوامل تنزع عن ترامب الأهلية لقيادة الشعب الأمريكي. بينما ركز ترامب بقوة على حالة بايدن الصحية وأسقط زلاته على سياساته، فاعتبر أداء الإدارة الحالية مضطرباً ومسيئاً للمجتمع الأمريكي ولسياسة الولايات المتحدة.
ونتيجة لطغيان "الشخصنة" على المناظرة، ستنعكس دلالات هذا الطابع بوضوح على اتجاهات التصويت، وهو ما أشارت إليه بالفعل استطلاعات الرأي التي أُجريت عقب المناظرة. فمقابل الخبرة الطويلة لبايدن والنزعة الاندفاعية والشعبوية لترامب، كانت المحصلة العامة سلبية بالنسبة لبايدن، نتيجة بطئه وتراجع حيويته إلى حد أن استطلاعاً للرأي داخل الحزب الديمقراطي، أشار إلى أن 60% من أعضاء الحزب يفكرون بجدية في مرشح آخر يكون بديلاً لجو بايدن.
ورغم إصرار جو بايدن على المضي قدماً في السباق الانتخابي، فإن مهمته صارت أصعب كثيراً بعد المناظرة عما قبلها. وليس إعلانه جاهزيته للمناظرة الثانية سوى محاولة لحفظ ماء الوجه وإنكار المأزق الذي واجهه خلال المناظرة الأولى.
بالتأكيد سيسعى بايدن إلى تغيير الصورة الرمادية الخاملة التي ظهر بها. لكن مشكلته لم تكن في موقفه السياسي أو تبنيه منطق الهجوم الشخصي، وإنما في حالته الذهنية والصحية التي يصعب تغييرها بسهولة.
ولأن كلا المرشحين بات معروفاً ومكشوفاً أمام الناخب الأمريكي، فإن العامل الشخصي الذي تصدر المناظرة الأولى، سيكون أكثر حضوراً وقوة وتأثيراً في المناظرة الثانية. وسيكسبها من يحرج خصمه أو ينجح في تحريض الأمريكيين ضد شخصه بمبادئه وقيمه وسلوكه، وليس ضد التوجهات والسياسات التي لا يحمل أي منهما جديداً فيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة