«تقليص الجيش الأمريكي».. هيغسيث يحسم الخيار بين «العقل» و«العضلات»
خلال لقائه كبار قادة الجيش أطلق وزير الحرب الأمريكي، بيت هيغسِيث، قذيفته الأيديولوجية الموجهة إلى جيش يعيش في القرن الحادي والعشرين.
ففي خطاب حماسي، شن هجومًا صريحًا وحادًا على ما أسماهم بـ"الجنود البدناء"، بمن فيهم أصحاب الرتب العليا، معيدًا إحياء جدل قديم-جديد حول مفهوم "الجندي المثالي" وهويته.
لم يكن خطاب هيغسِيث، بحسب مجلة "ناشيونال إنترست"، تجديدًا لدعوة روتينية لتعزيز اللياقة البدنية، بل كان إعلانًا صريحًا عن رؤية تريد استعادة ما وصفه بـ"عقيدة المحارب" التقليدية، في عصر باتت فيه الشاشات الإلكترونية وساحات الحرب السيبرانية لا تقل أهمية – إن لم تتفوق – على ساحات القتال التقليدية.
شحذ الأجساد أم استعادة للماضي؟ رؤية هيغسِيث المثيرة للجدل
تستند فلسفة هيغسِيث إلى حنين واضح لنموذج عسكري كلاسيكي، يضع اللياقة البدنية القصوى في صميم هوية وجوهر المحارب.
وباستخدام نفسه كمعيار حي، أعلن الوزير أنه "من المعيب" رؤية جنود وضباط يعانون من البدانة في التشكيلات القتالية أو أروقة البنتاغون، مصرحًا: "إذا كان وزير الحرب قادرًا على أداء تدريبات شاقة بانتظام، فبإمكان كل فرد في قواتنا أن يفعل ذلك".
ولاقت هذه التصريحات ترحيبًا حارًا من نواب الكونغرس الجمهوريين ومؤيدي حركة "ماغا"، الذين رأوا فيها خطوة ضرورية لتطهير الجيش وإعادته إلى صورته كآلة قتالية رشيقة وقوية، لا مكان للترهل فيها.
لكن في الجهة المقابلة، يرى كثير من الخبراء العسكريين والمحللين أن هذه الرؤية تتعامى عن التحولات الجوهرية في طبيعة الحرب والقتال. فالجيوش الحديثة لم تعد تعتمد بالدرجة الأولى على القوة العضلية المجردة، بل على المهارات التقنية المتقدمة، وقدرات التحليل الاستخباراتي، وخبرة الحرب الإلكترونية وتشغيل الطائرات المسيرة.
المعضلة الحقيقية: عندما تهدد اللياقة أزمة التجنيد واستقطاب المواهب
ويتجاهل خطاب هيغسِيث، وفقًا لتحليلات العديد من الخبراء، معضلة عملية عميقة تواجه الجيش الأمريكي. ففي وقت يعاني من أزمة تجنيد حادة بعد سنوات من التعثر، يأتي التشديد على المعايير البدنية الصارمة كحل قد يفاقم المرض بدلاً من أن يعالجه.
ويكمن الخطر الحقيقي في أن هذا التوجه قد يؤدي إلى استبعاد أعداد كبيرة من المجندين المحتملين، لا بسبب عدم كفاءتهم، بل لأن أجسادهم لا تتوافق مع النموذج المثالي الذي يريده هيغسِيث.
والأكثر إثارة للقلق هو أن هذا المعيار الضيق قد يحد من قدرة الجيش على استقطاب المواهب المتخصصة في مجالات أصبحت عصب القتال الحديث، مثل الحرب السيبرانية، والعمليات النفسية، والذكاء الاصطناعي. هذه الأدوار تعتمد في جوهرها على المهارات العقلية والمعرفية أكثر من اعتمادها على اللياقة البدنية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أيهما أهم للانتصار في حرب مستقبلية، جندي يستطيع الركض لمسافة أسرع، أم خبير سيبراني يستطيع حماية شبكات الجيش من هجوم مدمر؟
الوجه الآخر للأزمة: إشكالية الحرس الوطني وجنود "الويك إند"
وكشفت الأزمة عن وجه آخر أكثر قسوة، يتعلق بالفجوة بين الجنود النظاميين وأفراد الحرس الوطني وقوات الاحتياط. فقد أثارت صور منتشرة لجنود من الحرس الوطني في تكساس، بأجسام ممتلئة وهم يؤدون مهامهم في عملية ضبط الهجرة غير الشرعية في شيكاغو، موجة انتقادات حادة من مؤيدي هيغسِيث، الذين وصفوها بـ"المظهر السيئ" للجيش.
لكن وراء هذه الصور، يكمن واقع مرير يعيشه هؤلاء الجنود. فهم، على عكس زملائهم النظاميين، لا ينخرطون في الخدمة بدوام كامل. هم يخدمون أيامًا محدودة في الشهر، ويعملون في وظائف مدنية متعددة لتأمين دخلهم واستقرار أسرهم.
في خضم هذا الانشغال اليومي، يصبح الالتزام ببرنامج تدريبي يومي شاق ضربًا من المستحيل.
وتكشف تقارير، مثل تقرير صحيفة "يو إس إيه توداي"، عن مشكلة وهي أن هؤلاء الأفراد يفتقرون إلى الموارد والمرافق المناسبة للحفاظ على لياقتهم بنفس مستوى الجنود النظاميين، والأقسى من ذلك أن الإصابات التي قد يتعرضون لها أثناء التدريب في أوقاتهم الخاصة لا تُغطى في كثير من الأحيان بواسطة التأمين العسكري، مما يخلق عقبة مادية وصحية إضافية.