يواجه الإنسان المعاصر تحدياتٍ مركّبةً، فنجده عاجزًا ومندهشًا في آنٍ أمام ثورة تقنية تعزز نمط الحياة الاستهلاكي، وتعمّق مقارنات اجتماعية بسبب مواقع التواصل، ما يدفعه للانفصال عن حقيقته.
وتزداد حدة هذه الضغوطات على الفرد بعدما رُبط بين "النجاح" و"التميز" كقيمة عليا اعتبرها الجميع فضيلة ينشدونها للوصول إلى الثراء والمال.
وسط كل هذا برزت أصوات عدة تدعو إلى العودة لأروقة مكتبات أثينا القديمة، والنبش في كتب فلاسفتها لاستنباط منهج يساعد على التخفيف من وطأة التحديات التي يعيشها إنسان اليوم، لعله يجد مُبتغاه من السعادة عبر الفلسفة.
ورغم أن الفلاسفة لم ينصبّ اهتمامهم كثيرًا على تغيير نظرة الإنسان للحياة، مقابل اهتمامهم بالعلم والسياسة والمنطق والجمال، فإن الهدف العميق للفلسفة هو المساعدة في إيجاد الإنسان سكينته الداخلية.
فما الذي يمكن أن تقدمه لنا الفلسفة؟ وهل فعلا كما قال الفيلسوف الروماني "إبكتيتوس": مدرسة الفيلسوف هي عيادة الطبيب؟
لقد وثّق التاريخ أولى حالات العلاج بالفلسفة عبر سقراط، عندما نبّه معاصريه إلى عدم معرفة حقيقة أنفسهم، أما الإغريق القدماء "الإبيقوريون" فاعتبروا أن الفلسفة "أسلوب حياة"، والفكر الصحيح "علاج لروح الإنسان القلقة"، إذ يتيح التحكم في أهوائنا وتصحيح المسارات، التي تحثنا على الغرائز، ومن خلاله -أي الفكر الصحيح- يمكن تطوير الوعي بكيفية الاستمتاع بالحياة.
وبما أن أزمة الإنسان المعاصر تكمن في انغماسه في لعبة السوق الاستهلاكية وملذاتها، إلى جانب وقوفه عاجزًا أمام طفرة الخوارزميات وطغيان السطحية، تقدّم الفلسفة فهما عميقا للذات الإنسانية وصورة أوسع للحياة من زاوية مختلفة، مما ينعكس على السلوك، وبالتالي إصلاح الكينونة والوجود.
ومن أمثلة الدروس المستقاة من الفلسفة ما كان يعتبره اليونانيون القدامى حيال الأمل الكاذب، فيقول نيتشه: "يعتبر اليونانيون الأمل شر الشرور، بل هو الشر الأكثر مكرًا وخداعًا وتضليلا"، فالمرأة محطِّمة القلب تتحرر من حزنها بمجرد انعتاقها من الأمل الكاذب، إذ إن الشعور بانعدام الأمل يعيدنا إلى الحاضر مباشرة، فالآمال العظيمة فخ سعادتنا، تدفعنا لنسيان الحياة لأجل وعد وانتظار كاذب، لذلك كتب الروائي نيكوس كازانتزاكيس على قبره: "لا آمل شيئا، لا أخشى شيئا، أنا حر".
ويتفق معه الفيلسوف الألماني شوبنهاور، الذي لم يقصد دفعنا لليأس ولكنه أراد تحرير الإنسان من التوقعات التي تُفضي إلى المرارة والوهم، فيقول: "ما يسبب الانزعاج والتعاسة هو السعي وراء السعادة بناءً على افتراض أكيد بأنني سأجده، وانطلاقا من هذا سينبع الأمل المنغمس في الوهم عدا عدم الرضا، فالصور الخادعة للسعادة ستظل تلاحقنا".
أما "إبيقور" فيقول: "تقدم الأطباقُ البسيطةُ اللذةَ ذاتها التي تقدمها طاولة الملك المترفة"، في إشارة إلى أن تنامي الثروة المالية في المجتمع لا يضمن بالضرورة زيادةً في منسوب السعادة.
وهنا يبرز السؤال الذي طرحه الباحث المغربي سعيد ناشيد في كتابه "التداوي بالفلسفة": "هل الفيلسوف محامٍ يدافع عن مجتمعه بالمعنى الماركسي؟ أم دورُه تعليمي بالمعنى السُّقراطي، أم أقرب إلى طبيب الحضارة بحسب المنهج النيتشوي؟".
ختامًا، ما يهمنا هو ما توصل إليه المهتمون بالفلسفة المعاصرة مثل "آلان دو بوتون" وغيره من تفنيد واضح وصريح حيال الفكرة الخاطئة، التي تشير إلى انفصال الفلسفة عن حياة الناس، وتقوقعها في برج عاجيٍّ، فالفلسفة وظيفتها الأساسية هي المساعدة على عيش الحياة والاستمتاع بها وعلاج أخطاء الحاضر العبثي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة