يأتي انعقاد المنتدى الاقتصادي الشرقي في روسيا -من 5 إلى 8 سبتمبر الجاري- في توقيت بالغ الأهمية.
أقيم المنتدى في مدينة فلاديفوستوك في روسيا بهدف تشجيع الاستثمار الخارجي والأجنبي في الشرق الأقصى الروسي.
ويعد المنتدى منصة إقليمية لمناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة بالاقتصاد العالمي، والتكامل الإقليمي، وتطوير الصناعات والتقنيات الجديدة، بالإضافة إلى التحديات العالمية التي تواجه روسيا وبلدان العالم الأخرى.
وأيضا يعد فرصة للحوار المباشر بين الساسة، ومديري الأعمال التنفيذيين، والخبراء، من أجل تنمية الشرق الأقصى والتعاون الإقليمي.
ويتمتع المنتدى بمكانة دولية عالية، ويسهم في بناء العلاقات التجارية بين روسيا ودول منطقة آسيا والمحيط الهادي، كما يكشف الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية الغنية في مناطق الشرق الأقصى الروسي.
الموضوع الرئيسي للمنتدى هذا العام هو "الطريق إلى عالم متعدد الأقطاب"، حيث تجري الدعوة للتحرر من نموذج أحادي القطب، ووضع نظام عالمي جديد قائم على المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة، مع الاعتراف بحق كل دولة وشعب في مسار التنمية السيادي الخاص به.
وقد تم تشكيل مراكز سياسية واقتصادية قوية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، الأمر الذي يشير إلى أهمية التخطيط خلال المنتدى لإبرام العقود التجارية والاتفاقيات طويلة الأجل، بمشاركة دوائر الأعمال والسلطات الإقليمية.
ولعل ما قاله الرئيس بوتين في كلمة وجّهها للمشاركين في المنتدى الاقتصادي، كان واضحا في أن المنتدى يتمتع بمكانة دولية عالية، وأسهم في بناء العلاقات التجارية بين روسيا ودول منطقة آسيا والمحيط الهادي.. كما شجّع على جذب الاستثمارات والابتكارات التكنولوجية، وكشف الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية الغنية في مناطق الشرق الأقصى الروسي.
والواضح من مسارات ما طُرح من رؤى في المنتدى أن الهدف إعادة تشكيل بنية النظام الدولي مجددًا، مع التسليم بأن ذلك لن يكون في المدى المتوسط، بل على المدى البعيد، خاصة مع توقع أن التداعيات ستشمل كل الأطراف، وفي مناطق أخرى من العالم، مع التقدير بأن حسابات القوة الشاملة ستكون مهمة في إبراز مواقف وتوجهات كل طرف وفق حساباته وتقييماته، حيث سيكون الطرف الصيني المنافسَ الأكبر للجانب الأمريكي على مستوى الاقتصاد، أما على المستوى السياسي، فإن إعادة توزيع مناطق النفوذ ستتم وفقا لمعادلات السياسة والقوة، والارتباطات السياسية والاستراتيجية المعتادة، وسيظل التنظيم الدولي يعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي في العالم، وإن كان متوقعا أن تستمر حالة الجدال بين الأطراف الحاكمة لنظام مجلس الأمن، ومن ثمّ لن تكون هناك أي تغييرات متوقعة في تطوير أو إصلاح نظام مجلس الأمن، وستحرص الأطراف الرئيسة -الأعضاء في المجلس- على عدم إجراء أي تغييرات مفصلية، وستتجه بعض الدول الأوروبية، خاصة في شرق أوروبا، لتبنّي استراتيجيات منفصلة عن النطاقات الأوروبية، بعد أن كشفت الحرب الروسية-الأوكرانية خطورة ما يمكن أن يجري في ظل سياسات جماعية دون مراعاة ضوابط ومعايير بعض الدول الصغيرة، التي اتجهت لترتيب سياستها وتوجهاتها.
وستظل القوة العسكرية هي الحاكمة لأي مسارات مصالح لبعض الدول الكبرى، وهو ما سيعطي الفرصة لمزيد من الصراعات الإقليمية والدولية مجددًا، وستتجه الدول الكبرى والصغرى لتنمية قدراتها العسكرية.
وقد طرح المنتدى في فعالياته معاناة حلف الناتو من أزمة ثقة حقيقية، في ظل احتمالات تبدل المهام والأولويات في التعامل والاستهداف، وفي إطار علاقات دوله والعالم الخارجي، خاصة مع احتمال الدخول في مواجهات ثنائية ومتعددة في النطاقات الأوروبية وخارجها، مع اتجاه ألمانيا وفرنسا لاتباع سلسلة تدابير عسكرية داخل حلف الناتو وخارجه، وبما سيؤثر في الاستراتيجية الأوروبية الموحدة، والتي سيكون لها آثارها في المدى البعيد على السياسات الأوروبية الراهنة والمحتمل حدوثها.
من المرجح اتجاه روسيا إلى مواجهة حلف الناتو عبر التركيز على إحياء فكرة منظمة الأمن الجماعي، والعمل على بناء دوائر للنفوذ والتمركز الاستراتيجي في مواجهة ما سيجري في النطاق الأوروبي، وهو ما سيعيد التذكير باستراتيجية الدولة السوفييتية أثناء استراتيجية حلف وارسو في مواجهة الناتو، مع الاعتماد على استراتيجية الأمن الجماعي تحت إدارة الطرف الروسي، واتجاه روسيا والصين إلى بناء تحالف ثنائي عسكري واستراتيجي في مواجهة المد المتصاعد للجانب الأمريكي في النطاقات الآسيوية، وقد يأخذ هذا التحالف أنماطا مختلفة عما هو قائم، فضلا عن أنه مرشح ليضم دولا أخرى.
في هذه الأجواء، ستفكك أواصر اتفاقيات نزع التسلح ومنع الانتشار النووي، والتي لا تتوقف على دول النادي النووي، بل ستمتد إلى دول أخرى لم تصدّق على العديد من الاتفاقيات الدولية، وفي ظل تحلُّل بعض الأطراف من التزامات هذه الدول ببنود هذه الاتفاقيات، ومن المحتمل تنامي المواجهات العسكرية عبر مدّ التنظيمات الإرهابية، التي ستجد في حالة عدم الاستقرار فرصة حقيقية للوجود وإعادة ترتيب أولوياتها لتحقيق أهدافها، وإعادة بناء التحالفات الاستراتيجية الغربية وما يقابلها على الجانب الروسي، وهو ما سيؤكد أن بناء تحالف أمريكي هندي بريطاني أسترالي ياباني قد يكون نواة لما هو قادم من احتمالات تشكيل تحالفات إقليمية دولية أخرى تدخلها الصين، وعدد من الدول في المحيط الهادي والهندي لموازنة ما يجري أمريكيا.
وستتجه الدول الأوروبية للاعتماد على إمدادات الطاقة من مصادر متعددة، مثلما جرى في سلسلة اتفاقيات أوروبية دولية، بما يقلل من الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، ولكنها لن تكون البديل المباشر أو الكافي لاستمرار معاناة الاقتصاد الروسي جراء فرض سياسات العقوبات، وتوسيع نطاقها، الأمر الذي سيدفع لمزيد من حالة عدم الاستقرار في بنية الاقتصاد الدولي.
وقد اتجهت الصين ودول آسيوية متعددة للتحرك نحو روسيا لبناء شراكات اقتصادية متنوعة تتعلق بسياسات الطاقة، وهو ما قد يُحدث نوعًا من الاستقرار لاقتصاد روسيا.
ستظل المعاهدات والاتفاقيات الموجودة، التّي تتعامل مع مسألة الانتشار النووي في مكانها، نظرا لأن القوى العظمى الثلاث، أمريكا وروسيا والصين، تريد الحد من انتشار الأسلحة النووية.. لكن سيكون على الأطراف الثلاثة التفاوض على معاهدات جديدة تحدّ ترسانتها العسكرية، مثلما فعلت القوتان العُظميان في أثناء الحرب الباردة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة