كان اسمه "سعيد" رغم ملامحه البائسة اليائسة..
وكنا جميعا بمجرد الدخول إلى "عرب شركس" بدلتا مصر، كأننا عبرنا بوابة الزمن إلى عالم من الغموض داخل مصنع لتشكيل المعادن، منذ أن تشرق الشمس حتى مغربها وأحيانا إلى الشروق الجديد.
الجديد كان دائمًا عند "سعيد".. الصبي ذو الملامح الهندية بشعره الكثيف ولونه النحاسي.. فهو الوحيد الذي كان يأتي بأخبار "عرب شركس" لكل من يعمل داخل معسكر تشكيل المعادن هذا، بل هو أيضا مسؤول سلاسل الإمداد من غذاء ودخان وأحيانا صحف.
من الصحف عرف العالم كله "عرب شركس" في عام 2014، ضمن تفاصيل القضية الكبرى للخلية الإرهابية التي كانت تخطط لتفجيرات في مصر، أي بعد أحداث رحلة الصبي "سعيد" بعشرين عاما على الأقل، لكن على مدار العشرين عاما وأكثر ظلت جملة الصبي "سعيد" تتردد في أذنيّ، إذ كان دائما يقول للجميع: "انت فاكرني هندي؟!".
الهند ارتبطت عند كثير من المصريين بثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عبر قوة الهند الناعمة وأفلام أميتاب باتشان، رفيقة أيام العيدَين "الفطر والأضحى"، وحتى اليوم لا تزال تلك الأفلام، المُبالَغ في أحداثها، محل جدل ونقاش لجيلي في نادي الأربعين، لأجدني أبتسم وأتذكّر الجملة ذاتها: "انت فاكرني هندي؟!"، التي كانت تملأ معسكر "الحدادة" في "عرب شركس".
في بلاد العرب، وليس "شركس" فقط، وقف الجميع مندهشًا مما آلت إليه الهند، التي أعجزت العقول قديمًا بروايات طويلة أسطورية خارقة حد الخرافة، حيث أصبحت الهند أحد نمور الاقتصاد، ليس في آسيا فقط، بل على مستوى العالم.
في العالم قوى اقتصادية كبرى أهمها الولايات المتحدة وكندا وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان، والمعروفون بـ"مجموعة السبع"، أو G7، وفي تصوري قد تصبح G8، حال انضمت الهند، التي يؤهلها اقتصادها لذلك، وغالبا قد يحدث هذا في بضع سنوات آتية أو بضعة شهور.
منذ شهور خلت قائمة العشرة الكبار لأثرياء العالم من الهنود، إلا ما فيما ندر وعلى استحياء، إذ يدخل هذا ويخرج سريعا، فالمقاعد العشرة الأولى محجوزة دائما للغربيين الأوروبيين والأمريكيين، لكن طموحات الهنود لا تتوقف، وأصبح الملياردير الهندي موكيش أمباني ثامن أغنى أغنياء العالم على قائمة بلومبيرج للمليارديرات، ليعزز "قطب آسيا الوحيد" موقعه في النادي الحصري لأغنى 10 أشخاص في العالم برصيد 68.3 مليار دولار، متجاوزًا المخضرم وارين بافيت وآخرين من رجال المال والاقتصاد.
الاقتصاد الهندي كذلك أزاح اقتصاد بريطانيا في قائمة أكبر الاقتصادات في العالم إلى المركز السادس، وقفزت الهند، التي كانت مستعمرة بريطانية سابقا، إلى المركز الخامس خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي 2021، بحسب بيانات إجمالي الناتج المحلي لدول العالم، التي يصدرها صندوق النقد الدولي.
كما واصل الاقتصاد الهندي نموه خلال الربع الأول من العام الحالي وفق معطيات وأرقام اقتصادية حديثة.
الأرقام المبشرة باقتصاد الهند أخذتني إلى التفكير مجددًا في ما كان يقصد الفتى "سعيد" بجملة "انت فاكرني هندي؟!"، وقادتني الذاكرة إلى دفتري القديم بحثًا عن رقم هاتف لـ"سعيد"، فلم أجد، فرأيتُني في "عرب شركس" نفسها، أقف عند ذاك الباب الموصود لمعسكر تشكيل المعادن بعد أن هجره "سعيد" ورفاقه.. لستُ أدري إلى أين، وأنا أردّد "ياريتني كنت هندي!".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة