توفي، مؤخرًا، ميخائيل جورباتشوف، آخر زعماء "الاتحاد السوفييتي" السابق.
ملفتٌ لكثيرين استقبال روسيا والغرب الخبر بهدوء.. إذ مرت إجراءات تشييع "جورباتشوف" إلى مثواه الأخير دون صخب أو أي مظهر اهتمام بالرجل الذي انهارت الإمبراطورية السوفييتية في عهده، بعدما كانت قطبا دوليا مع الولايات المتحدة لأربعة عقود (1945-1985).
روسيا لم تكن وحدها التي تعاملت مع غياب "جورباتشوف" بهذا الصمت، فردود الفعل الغربية جاءت هي الأخرى باردة.. بل إن زعيما غربيا واحدا لم يفكر في حضور جنازة مَن قدّم إلى الغرب الأوروبي-الأمريكي أعظم الهدايا السياسية على مر التاريخ، وكان سببا مباشرا في تغير مجريات العالم.. أو بعبارة أكثر دقة، هو مَن رفع الراية البيضاء ليعلن واقع استسلام المعسكر الشرقي لحالة هزيمة داخلية وتفكك ظل مُخبأ ومكتومًا لسنوات طويلة.
ميخائيل جورباتشوف يمثل ظاهرة تاريخية جديرة بالدراسة والتحليل.. كونه وحّد الروس والغرب على تجاهل وفاته وتهميش وتجاهل خطواته الأخيرة إلى القبر، ولكونه هو نفسه الذي كسر طوق الجمود الشيوعي وفتح بابًا للشفافية والانفتاح "جلاسنوست وبريسترويكا" باللغة الروسية، التي حفظها كل دارسي العلوم السياسية في ذلك الوقت.. وهو نفسه الذي فاز بجائزة نوبل للسلام بعد أن قاد بنجاح عملية تحويل الاتحاد السوفييتي من دولة إمبراطورية إلى دولة معظم شعوبها متحررة وتتطلع إلى الالتحاق بـ"الغرب المتقدم".. وهو نفسه الذي أدى دوره التاريخي في الاتحاد السوفييتي بتفكيك المعسكر الشرقي "الشيوعي" كله.
باختصار ما قام به جورباتشوف هو "تحرير" إرادة شعوب المعسكر الشرقي من قبضة القياصرة، ولكن هذه الدول التي يُفترض -وفقا للمفاهيم الغربية- أنها "تحرّرت" على يدي جورباتشوف، هي نفسها التي تتجه منذ عدة سنوات إلى استعادة ماضيها القديم، وتتخلى عن السير وراء الغرب.. وبالأخص تلك الدول التي أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى افتقادها الهوية والكينونة التي كانت تتمتع بها تحت مظلته، وصارت بعده أشبه بمقاطعات وإقطاعيات أوروبا في القرون الوسطى، حيث لا قوة ولا كيانا ولا هوية لشعوبها يدافعون عنها أو تبرر وجودهم.
وليس أدل على هذا التطور من الوضع الراهن في روسيا ورفيقاتها من الجمهوريات السوفييتية السابقة.. فمنذ تولي فلاديمير بوتين زمام الأمور، بدأت روسيا تستعيد قوميتها وسياساتها، وبالتالي قوتها ونفوذها في العالم.. وصار الروس يزدادون حنقا على جورباتشوف مع كل يوم تبتعد فيه "روسيا بوتين" عن "اتحاد سوفييتي جورباتشوف".
بل إن المواطنين الروس انقلبوا على التحول التاريخي، الذي قام به جورباتشوف بعد 5 سنوات فقط من رحيله عن السلطة.
ففي عام 1996 ترشح جورباتشوف للانتخابات الرئاسية ضد خليفته بوريس يلتسين. وكانت المفاجأة أنه لم يحصل سوى على 0.5% من أصوات الناخبين!
وبعد عقدين، في عام 2017، أجري استطلاع للرأي لم يحظَ فيه جورباتشوف سوى بتأييد 8% فقط من الروس.. بينما كانت آراء الغالبية تجاهه سلبية..
وكان التفسير أنهم يعتبرون نتائج انهيار "الاتحاد السوفييتي" كارثية بالنسبة لهم.
ولا يقتصر هذا الاستياء تجاه جورباتشوف على المواطنين الذين عانوا اقتصاديا نتيجة تفكك الدولة السوفييتية أكثر من معاناتهم السياسية نتيجة ما أسموه "نقص حريات" قبل تفككها.. فالتعاطي الروسي الرسمي مع وفاة جورباتشوف كان يحمل دلالة واضحة على رغبة موسكو الرسمية في نسيان تلك الحقبة والتنصل منها.
هذا الموقف مفهوم ومنطقي من روسيا حكومة وشعبا، أما الموقف الغربي فهو يدعو إلى التساؤل.. فقد قدم جورباتشوف للغرب ما كان يستحق معه أفضل تقدير وتعظيم.. وليس تجاهلا كما حدث بعد سنوات قليلة من مغادرته السلطة، وتأكد مؤخرا بتجاهله تماما عند وفاته.. كما لو كان مجرد موظف أو عامل بسيط كان يفترض أن يؤدي مهمته وانتهى الأمر، وليس بطلا عظيما كما كان الغرب نفسه يصوره في ذلك الوقت.
المثير للدهشة ويدعو إلى التأمل، أن هذا هو حال أغلب الزعماء التاريخيين، غالبا ما يحظون بمكانة وصورة ذهنية معينة في حياتهم أو في أثناء وجودهم في السلطة، وما إن يبتعدوا أو يغيبوا عن المشهد تتغير الصورة وتكاد تنعكس تماما.. والأمثلة كثيرة في الحالتين، تشمل من كان مثار إعجاب ثم صار محل غضب واستياء، مثل جورباتشوف.. وتشمل أيضا من بدَوا قُساةً وتسببوا في معاناة شعوبهم، ثم حنّ كثير من تلك الشعوب نفسها إلى أيامه واعتبروه بطلا تعرّض للظلم.
كل الزعماء التاريخيين محل جدل واختلاف في التقييم والحكم على فترات حكمهم.. خاصة عندما يتم التقييم في فترة زمنية مختلفة ولاحقة على وجودهم في السلطة.. وهو ما يذكّر بأقوال الأكاديميين المتخصصين في التاريخ بأن من الخطأ الحكم على شخص أو حدث في زمن ما بمعايير زمن آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة