تقوم الحياة في معظم صورها على تناغم جدليات متنوعة، فتبدو بادئ ذي بدء في صورة مضادة، ثم تسمو بالفهم والتحليل والقراءة المتمعنة، لتبدو ذات نَسب وارتباط متين تَزيد قوتُه كلما حاولنا تَفسير أطراف تلك الجدلية كلاً على حدة.
ولقد لعبت جدلية الفلسفة والدين دوراً بارزاً في ساحة تصارع الأطراف، حتى انقسمت الآراء بسبب التحيز لأحدهما دون الآخر، وذلك اعتداداً بما يقوي رأيَه من أدلة وبراهين. وحين وُجد لكل منهما ما يفسر وجودَه ويدعم موقفَه وجدنا أن تلك الجدليات تسير نحو هدف واحد تتلاقى على ضفافه، وهذا الحاصل في الانقسام بين مؤيد للدين ومعارض للفلسفة أو العكس.
لكن، هل على الإنسان بالفعل أن يختار أحدهما؟ وهل يؤذي الشريعةَ السبرُ في مكنونها، أو يفسد الفلسفةَ بيانُ حدود الإشكالات المحاطة بالضبابية؟ الأرجح أنهما عنصران لمادة واحدة، وكما يقول الفيلسوف والمفكر ابن رشد فإن الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين أختان ارتضعتا لباناً واحداً، وهما تتعاونان في إسعاد البشر وري ظمئهم الفكري والمعرفي، واحترام نزعاتهم الفكرية.
وبالتركيز على الشريعة بذاتها، نجد أن القدرة على فهمها والتغذية الروحية من خلالها بحاجة ماسة للعملية الفكرية الفلسفية، والاستعانة بالرهان المنطقي للوصول لمعرفة واضحة للخالق سبحانه وتعالى، والاستدلال على قوته وقدرته وعظمته عز وجل من خلال الموجودات المحسوسة حول الإنسان، وباستخدام القياس الفلسفي، وعدم الاقتصار على الاستنباط السطحي.
وقد قدَّم في هذا السياق فيلسوفُ الأندلس في كتابه «تهافت التهافت» العديدَ من القراءات الفلسفية العميقة حول الدين، إذ اعتبر أن النبوة حادث طبيعي، وأن الوحي تجسيد للعقل الفعال.. كما تطرَّق للمعجزة باعتبارها أمراً ممكناً متناغماً وقوانين الطبيعة، لكنها مقتصرة على الأنبياء الذين تحتمل أنفسُهم وقوعَ تلك المعجزة، وهذا يمتنع على الإنسان العادي.
أما حاجة الفلسفة للدين فتنبع مما يثبت من سعة المدى الملتصق بـ«الشطحات الفلسفية»، واتساع الخيال الإنساني التواق للاكتشاف والاستزادة المعرفية، وتوسيع دائرة المفهوم والمعروف، مضيفاً على الدوام لحقيبته الثقافية والمعرفية دون توقف، حيث يبقى ذلك بعيداً عن دائرة المخاطر «المتعبة»، وبعيداً عن استنزاف الطاقة الإنسانية وإهدارها بلا جدوى، طالما تقيد ذلك بحدود واسعة معلومة، لا سيما ذات العلاقة بالمفاهيم الوجدانية العميقة.
إن «الله أعطانا عقولاً وأعطانا شرائعَ موافقة لها»، وفي التوسط والاعتدال بين الدين والفلسفة، نجد أن الصورة العامة لفلسفة ابن رشد يعكسها انتهاجه مقالاً مناسباً لكل مقام، لا سيما أنه يظهر كفيلسوف عقلاني في بعض طرحه، وفي طرح آخر تجده على غير ذلك. كان يتمسك بالعقلانية عند حواره مع أهل الفلسفة، ويتنحى عنها إذا ما تطرق لسياقات تخص عامة الناس، ذلك أنهم لا يطيقون السبر الفلسفي العقلي العميق، وبالتالي فإن التوازن في تناول الجدليات يعكس الطريقةَ المثلى للانتقال من طور الافتراق والتحيز إلى طور الاتفاق والتميز، في الفكر والطرح وتعميم المعارف. وكما يقول ابن رشد فإن «الله تبارك وتعالى خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء لا يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعاً».
نقلا عن صحيفة "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة