في الآونة الأخيرة، ثار مصطلح جديد في الأدبيات الأكاديمية والإعلامية هو «تعفن الدماغ»، صاغته بعض الجامعات الأمريكية للإشارة إلى التأثيرات السلبية للمحتوى الرقمي التافه وغير الأخلاقي وغير القانوني المنتشر على شبكة الإنترنت.
هذا المصطلح يمثل تشخيصاً دقيقاً لمرض ثقافي ومعرفي آخذ في الانتشار بين الشباب والمراهقين بل وحتى البالغين الذين يقضون ساعات طويلة أمام شاشات الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي.
والمقصود هنا: الانغماس في موجة متلاحقة من المقاطع السطحية والنكات المبتذلة والأخبار الزائفة والممارسات غير الأخلاقية التي تفرغ العقل من قدرته على التفكير النقدي وتضعف مناعته ضد التضليل والانحراف.
تتجلى خطورة الظاهرة على عدة مستويات؛ فعلى الصعيد النفسي يؤدي الاستهلاك المفرط للمحتوى التافه إلى ضعف التركيز وانخفاض القدرة على القراءة العميقة وتنامي حالات القلق والاكتئاب المرتبطة بمقارنة الذات بالآخرين.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن هذه الظاهرة تخلق أنماطا جديدة من العزلة والانفصال عن الواقع؛ إذ يصبح الفرد أكثر حباً بشاشته من تواصله مع أسرته أو محيطه الاجتماعي.
وعلى الصعيد الأخلاقي والقانوني، يساهم انتشار المقاطع غير القانونية وغير الأخلاقية في تطبيع السلوكيات المنحرفة بل وتحفيز بعض الفئات على تقليدها مما يهدد المنظومة القيمية للمجتمع ويضعف مرجعيته الأخلاقية.
ومن منظور القانون الجنائي والجرائم الإلكترونية يثير “تعفن الدماغ” إشكاليات جوهرية حول المحتوى المؤذي الذي يضر بالنظام العام كما يطرح تساؤلات معقدة عن قدرة الدول على ملاحقة المحتوى غير القانوني العابر للحدود في ظل الطبيعة العالمية للإنترنت فضلاً عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تتحملها المنصات الكبرى في مراقبة ما ينشر عبرها.
وقد خطت دولة الإمارات خطوات متقدمة من خلال المرسوم بقانون اتحادي رقم (34) لسنة 2021 بشأن مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية الذي يعالج بعض جوانب هذه الظاهرة.
مواجهة هذه الظاهرة تتطلب جهدا جماعيا متكاملا يبدأ من التربية الرقمية عبر إدراج برامج للتربية الإعلامية والمعلوماتية في المناهج التعليمية لتعليم الأجيال كيفية التمييز بين المحتوى المفيد والمضر.
كما يجب تعزيز المسؤولية المجتمعية وإشراك الأسر والمؤسسات الدينية والثقافية في نشر الوعي بخطورة الانغماس في المحتوى التافه مع العمل على بناء علاقة صحية مع التكنولوجيا.
وعلى الصعيد القانوني، لا بد من تطوير اتفاقيات دولية أكثر صرامة تلزم منصات النشر الرقمي بإزالة المحتوى الضار بشكل فوري وشفاف، في حين يتعين على الحكومات والمجتمع المدني دعم البدائل الإيجابية عبر تشجيع إنتاج محتوى معرفي وترفيهي راقٍ يشكل بديلا جذابا وقادرا على منافسة موجة التفاهة.
كما يمكن استثمار تقنيات الذكاء الاصطناعي في رصد المحتوى الضار بشكل استباقي مع مراعاة المعايير المتعلقة بالخصوصية والشفافية.
إن مصطلح “تعفن الدماغ” تحذير علمي وأخلاقي من خطر حقيقي يهدد وعي الأجيال ويمس صميم العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه استقرار المجتمعات، وإذا لم نتعامل مع هذه الظاهرة بجدية من خلال تكامل التشريع مع التربية والتقنية مع الثقافة فإننا سنجد أنفسنا أمام مجتمعات هشة معرفيا ضعيفة المناعة الأخلاقية وسهل التلاعب بها.
إن الإنترنت أداة عظيمة تحمل بين طياتها إمكانات هائلة للتنوير والتقدم لكنها في غياب الوعي قد تتحول إلى أداة للتدمير ويبقى القرار في النهاية بيدنا نحن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة