لم يعد بوسع العالم أن يغض الطرف عن الكارثة السودانية الممتدة منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع.
ففي تقريرها الأخير، الصادر تحت عنوان لافت: (حرب الفظائع)، وضعت اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق حدًا للرواية الرسمية التي روّجتها سلطة بورتسودان، والتي سعت منذ البداية إلى إلقاء تبعات الحرب على خصومها أو نسبتها إلى قوى خارجية، في محاولة يائسة لتبرئة الجيش وحلفائه الإسلاميين من أي مسؤولية.
التقرير، الصادر عن لجنة أممية رفيعة ويُعرض اليوم (الإثنين) أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، جاء حاسمًا بلا مواربة: كلا الطرفين - الجيش السوداني ومعه الحركات الإسلامية من جهة، وقوات الدعم السريع من الجهة الأخرى - يتحملان مسؤولية الجرائم والانتهاكات في الحرب. وتشمل تلك الجرائم: الاضطهاد الممنهج، التهجير القسري، القتل الوحشي، التدمير المتعمد للبنية التحتية، إضافة إلى الانتهاكات الجنسية واستخدام التجويع سلاحًا لإخضاع السكان.
وأكد التقرير أن المدنيين، هم الضحايا الأوائل والأكثر معاناة. فقد أُحرقت قرى ومُسحت من الوجود، وتحولت المخيمات إلى أطلال غير صالحة للحياة. وتشير الأرقام إلى مأساة غير مسبوقة: أكثر من 12 مليون نازح، ونصف سكان البلاد يواجهون خطر انعدام غذائي حاد يهدد حياتهم. ومع ذلك، يواصل الخطاب الرسمي للجيش إنكار الحقائق والاحتماء بالدعاية بدلًا من الاعتراف والبحث عن حلول.
كما يكشف التقرير الأممي أن الانتهاكات لم تتوقف عند شن هجمات واسعة ضد مدنيين عزّل، بل امتدت لتشمل تدمير المرافق الحيوية اللازمة للبقاء، من أسواق ومراكز طبية إلى أنظمة المياه والغذاء.
إنها حرب لم تُوجه إلى الإنسان فقط، بل إلى شروط الحياة برمّتها!
والمفارقة الصارخة التي يرصدها التقرير أن سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، التي لا تفوّت فرصة للتنديد أمام المنابر الدولية، ترفض في الوقت نفسه التعاون مع الآليات الأممية ذاتها التي تلجأ إليها في الشكاوى. فقد تلقت خمس مذكرات رسمية تطالبها بالسماح لبعثة تقصي الحقائق بزيارة السودان ولقاء المسؤولين، كان آخرها مخاطبة مباشرة لرئيس وزراء السلطة المعيَّن، لكن جميع الطلبات ووجهت بالتجاهل، في سياسة تكشف عن رغبة واضحة في تفادي التحقيق والمساءلة!
وراء هذه الحقائق يطل سؤال جوهري: هل ما يجري في السودان مجرد نزاع على السلطة، أم أنه إعادة إنتاج لتحالف تاريخي بين الجيش والتيار الإسلامي الذي حكم البلاد لعقود طويلة؟
الواقع أن الحرب ليست انفجارًا عابرًا، بل امتداد لتواطؤ الجيش في إجهاض انتقال سياسي كان من شأنه أن يقود إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية، وجعله السلاح وسيلة وحيدة لممارسة السياسة الوحيدة. وهنا تبرز مسؤولية المجتمع الدولي، الذي بدا في أحيان كثيرة متقاعساً، أو غير راغب في ملامسة جذور الأزمة!
إن هذا التقرير ليس مجرد وثيقة اتهام، بل جرس إنذار يضع مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة أمام اختبار المصداقية. فالجرائم الموصوفة لا تهدد السودان وحده، بل تنذر بإشعال أزمات ممتدة في الإقليم، من موجات نزوح جماعي إلى تهديد الاستقرار الإقليمي.
ويطرح التقرير توصيات حاسمة: فرض حظر شامل على السلاح، دعم المحكمة الجنائية الدولية لتوسيع ملاحقاتها، إنشاء آلية قضائية مستقلة خاصة بالسودان، وتفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية لضمان ألا يفلت أي من الجناة من العقاب مهما علا منصبه.
لقد كشف التقرير ما يعرفه السودانيون جيدًا، لكنه بصياغته الأممية الرسمية وضع حرب السودان على طاولة العالم بجدية لا لبس فيها. المدنيون يدفعون الكلفة الباهظة، فيما يكتفي المجتمع الدولي ببيانات الإدانة. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يتحرك الضمير الدولي من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل، أم يظل السودان مسرحًا لحرب تُدار بدماء الأبرياء؟
حفظ الله السودان والسودانيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة