في جيبي دائماً جهاز الأيفون الذي يصنف بكونه أول جهاز ذكي يمثل رمزاً أساسياً للعولمة بسبب تواصله واتصاله عبر الإنترنت بمختلف مكونات العالم من شعوب وأفراد وصناعات وثقافات ومعرفة إلى جانب ما يمثلهُ من متعة ومؤانسة.
هذا الجهاز يعكس مدى العولمة التي نعيشها مع الأجهزة الذكية، فهو يعد مثالاً واضحاً على مدى الاعتماد المتبادل والتكامل المتعدد؛ حيث يتكون من صناعات وتصميمات متعددة ومكونات طبيعية موجود في الكثير من البلدان والدول، والتي تُجمع في الصين.
وهذه الحقيقة في الترابط والاعتماد المتبادل جعلت معضلة الخلاف التاريخي بين الصين وتايوان محلاً لاختبار مدى قدرة الاعتماد المتبادل على تخفيف الصراعات، فشركة TSMC التايوانية تعتبر الشريك الرئيسي لشركة آبل في تصنيع الرقائق الإلكترونية.
هذه المعضلة تتعقد بسبب كون تايوان وغيرها كاليابان وكوريا الجنوبية في مسار الكتلة الغربية، فنظرية الاعتماد المتبادل بكل ما تحمله من تكامل وتعاون تواجه تحديات عديدة لدى دول منطقة شرق آسيا منها النزاع بين اليابان والصين وتايوان على جزر سنكاكو Senkaku، والنزاع الروسي الياباني على الأقاليم الشمالية وعلى جزر كوريل (Kuriles)، والوضع القائم في الجزيرة الكورية "الكوريتين الشمالية والجنوبية"، والنزاع الصيني مع جنوب شرق آسيا على جزر سبراتلي (Spratly)، والنزاعات على السيادة في مضائق جنوب شرق آسيا ومرور الطاقة، ووضع تايوان بين الحماية الأمريكية والمطالبة الصينية بضمها، فكل هذه النزاعات حتماً ستعرقل الاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب والصناعات والتجارة وربما تكون عائقاً لانتقال القوة العالمية الصناعية والاقتصادية إلى آسيا، فقد كانت أوروبا وأمريكا الشمالية منذ عدة قرون مركز العالم ثروةً وقوةً وتطوراً ومعرفةً.
ومن الأهمية هنا ذكر تحالف أوكوس AUKUS الذي تأسس 2021 بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة لمواجهة تزايد الهيمنة الصينية في آسيا والحفاظ على أمن منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
مع كل ذلك ثمة معضلة دوليّة أخرى تأتي من بكين؛ حيث إن نمو الصين الاقتصادي واستثماراتها الخارجية في العديد من الدول أصبح مرتبطاً مع معضلة تزايد البطالة في العديد من الدول النامية وصولاً للدول الغربية المتقدمة، حيث إن هناك الكثير من الدول تتعاون مع بكين وتفتح لها الأسواق وأرضية لتكوين وشراء مختلف المصانع واستثمار الموارد والمصانع وتمكينها من إدارة بعض القطاعات الخدمية كالموانئ، لذا لابد أن تعمل بكين على توزيع المكاسب لكي تحافظ على صعودها نحو هرم النظام الدولي العالمي.
وإلى معضلة أخرى، ففي جيبي أحمل هاتفاً ذكياً يقوم بإنجاز المعاملات والخدمات الحكومية وغير الحكومية عبر التطبيقات الإلكترونية في أي مكان وزمان، وقد مَثَلَ ذلك محلاً لسرور المتعاملين ومعياراً لتقدّم وإنجاز المعاملات والتسوق والمصالح والخدمات التجارية وغير التجارية كالتعليم والعمل عن بُعد.
ناهيك عن رقابة حركة الأموال والبشر بصورةٍ عالية، وتحسين السياسات العامة الحكومية عبر توفر الإحصائيات الكمية المتعددة والمختلفة وتحويلها إلى معلومات نوعية تعكس علاقات بين عوامل ومطالب ومؤثرات ونقاط قوة وضعف وفرص لتحسين الأداء.
واليوم وصلنا إلى ما يسمى بالذكاء الصناعي، الذي أضحى يعكس قدرة سلوك البرامج الحاسوبية في محاكاة معرفة وحتى سلوك البشر في عملية معالجة المعلومات واختيار واتخاذ البدائل وحتى القرارات التنفيذية، وكل ذلك أصبح يحدث في الشركات والمصانع والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والخدمية وحتى على مستوى الأفراد، وصولاً إلى الدفاعات العسكرية والأمن السيبراني والتعليم والاختراعات.
هذا التطور بالأجهزة الذكية والتطبيقات والذكاء الاصطناعي ودخول الآلات مختلف الصناعات وميادين الإنتاج والأعمال قلّص بل إنهُ سيلتهم الوظائف ولن يخلق وظائف موازية للمفقود منها، ولعل الاستثناء هنا الدول التي لا تملك قوة في قدرات وأعداد البشر العاملين، والتي ستستفيد من التكنولوجيا دون سلبيات.
وبالنظر إلى وظيفة الدولة أي كان تصنيفها أما دولة التخصيص Allocation State حيث تعتمد على تصدير الموارد الطبيعية وتقوم بخلق وظائف وتقديم مختلف الخدمات والمطالب التنموية للشعب من تلك العوائد، أو أنها في خانة الدولة المنتجة Production State التي تقوم على الصناعة والإنتاج والاستثمار والخدمات، حيث الحكومات هنا تعتمد على الضرائب عبر الأفراد والشركات والمصانع في تحقيق سياساتها العامة للشعب من وظائف وخدمات مختلفة ومتعددة مع تطوير القدرات البشرية والمادية. فإن إيجاد الوظائف بشكلٍ مستمر يعد أحد أهم أهداف الحكومات نحو شعوبها، والوظيفة ليست فقط عملاً مقابل أجر مادي، بل وسيلة اتصال وولاء وانتماء وتفاعل مع النظام السياسي وسلامة المجتمع، كما أن الوظيفة تعكس مشاركة للشعب مع الحكومة والنظام السياسي، وفلكًا تدور فيه السياسات والبرامج التنموية والتقدم ومواجهة التحديات، ومعياراً لنجاح السياسات وتحقيق جودة الحياة.
إلى جانب ذلك، تعد الوظيفة طريقاً لإعادة توزيع الدخل القومي واستهلاك السلع ومنها ما تنتجهُ التكنولوجيا.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن إتمام المعاملات والتعايش مع التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي سيكون سببًا في بعض الأمراض البدنية والنفسية والجرائم المختلفة بسبب قلة الحركة والتفاعل بين البشر وتجمد الحياة.
ولعل الحل الذي يكمن في عقلي، بأنه كما حدث عندما تزايد خطر التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية عبر الإنتاج والتنمية، حيث خرجت فلسفة التنمية المستدامة لإيجاد توازن بين الضرورات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والعمرانية في تلبية احتياجات الحاضر مع ضمان حقوق الأجيال القادمة في التنمية، وعلى السياق والمسار نفسه، ربما ستخرج سياسات حكومية وأطروحات فكرية تؤطر استخدام التكنولوجيات وتجعل لها محددات للمواءمة بين الضرورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والصحية، خاصةً وأن تزايد البطالة لن يجعل هناك قيمة للسلع والخدمات ولا حتى شرعية للحكومات، وقد نتحدث حينئذ عن تنمية تكنولوجية مستدامة.
ونختم هنا بمعضلة أخرى محيرة مرتبطة بالسؤال هل هناك طاقة نظيفة سيشهدها العالم؟، حقيقة تحول العالم نحو البطاريات المعتمدة على مواد متعددة أهمها الليثيوم غير المتجدد والملقب بالنفط الأبيض لأهميتهِ ولونهِ الطبيعي، يكشف جدلاً واسعاً حول كون الليثيوم الموجود لن يكفي العالم، ناهيك عن أن عملية استخراجهِ واستخلاصهِ تلوث البيئة وتستنزف المياه الجوفية.
علاوةً على ذلك، فإن عملية تدوير البطاريات والألواح الشمسية مُكلفة ومُلوثة للبيئة، ومن عيوب الطاقة النظيفة أنها تأخذ رقعة جغرافية كبيرة في مولدات الطاقة من الرياح والألواح الشمسية، وبذلك تؤثر سلباً على قطاع الزراعة والحياة البيئية خاصةً مع وجود معادلة تقول بأن معظم الدول في المعدل المتوسط ستحتاج ربع مساحتها للألواح الشمسية لتوليد الطاقة اللازمة.
مقابل ذلك، من الطبيعي أن تجد الدول الصغيرة نفسها أمام بدائل أخرى أقل تكلفة للطاقة كالمفاعلات النووية والاستمرار في طاقة النفط والغاز لتوفير المساحة الجغرافية، ومن الأهمية بمكان ذكر وجود محاولات لتخفيف الطلب على الليثيوم المتوفر في دول محدودة، أصبحت محلاً لاهتمام وتنافس الدول الصناعية، وستبقى خريطة العالم السياسية بكل حلقاتها من تعاون واعتماد متبادل وصراع وتنافس ترسمها الموارد الطبيعية غير المتجددة والمتجددة.
مازال في جيبي هاتفي الذكي، ومازلت أحمل قضايا عالمية منها المربكة والمحيرة والمتناقضة، على سبيل المثال، ففي عالمنا اليوم الأكثر تطورا هناك استمرار لوجود الفقر والمجاعات وفقدان الاحتياجات الأساسية للحياة مثل الماء الصالح للشرب والتعليم والأمن والمأوى في بعض المجتمعات والدول، كما أن هذا العالم غير منسجم بل ومتناقض في رؤى المستقبل، فتارة يعلن أن زيادة سكان العالم ستلتهم الموارد الطبيعية، وتارة أخرى يخرج صارخاً حول نقص معدلات الخصوبة وزيادة معدلات الشيخوخة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة