فدية بالملايين أم صيد يائس؟ قصة القراصنة الجدد في الصومال
من صيادين إلى قراصنة، قصة تحول مثيرة تكشف جانبًا من أسباب عودة القرصنة إلى الواجهة مجددًا في مياه الصومال، طارحة تحديات محلية وإقليمية، على الملاحة التي تعاني جراء الهجمات الحوثية.
وبحسب قوة الاتحاد الأوروبي البحرية «عملية أتالانتا»، التي تقوم بدوريات في المنطقة، وقع 26 هجوما للقراصنة بين عامي 2013 و2019 على ساحل الصومال ثم لم تقع أي هجمات من عام 2020 إلى عام 2022. لكنها استؤنفت في عام 2023، بستة هجمات وارتفعت إلى 22 هذا العام، بحسب الأرقام حتى 5 ديسمبر/كانون الأول.
فما أسباب عودة القرصنة؟
في بلدة إيل الساحلية الصغيرة، بمنطقة نوجال الشمالية الشرقية في الصومال، والتي تعرف باسم «هارونتا بوركادا» أو عاصمة القراصنة، بدأت القصة، ليس فقط بسبب موقعها، لكن أيضا لأنها تحتوي على مصدر للمياه العذبة - وخلال ازدهار القرصنة في أوائل ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، جعلها القراصنة قاعدة لهم.
ومن تلك المدينة استهدف القراصنة سفن الحاويات التي تنقل البضائع حول العالم وحتى بعض ناقلات النفط، مما أجبر شركات الشحن على تغيير مساراتها. ولم يكن للسلطات الإقليمية أي نفوذ على الوضع، فيما كانت قوات الشرطة المحلية «خائفة للغاية من دخول المدينة»، بحسب تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي».
كان القراصنة يحتجزون السفن التي اختطفوها في عرض البحر، وكانت الشركات في المدينة والمنطقة تستفيد من مدفوعات الفدية. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن جماعات القراصنة كسبت بين عامي 2005 و2012 ما بين 339 مليون دولار و413 مليون دولار.
لكن القراصنة عانوا من انقلاب أحوالهم عندما بدأت القوات البحرية الدولية في دوريات في المياه قبالة سواحل الصومال، فيما أصبح لقوة شرطة البحرية في بونتلاند قاعدة في إيل.
ورحب معظم السكان في المدينة بهذا الأمر، لأن القراصنة جلبوا معهم التضخم الهائل والمخدرات والكحول والسُمعة السيئة التي تجنبها الشيوخ المحليون.
نقطة التحول
لكن الاستياء الذي طال أمده تجاه السفن الأجنبية، وخاصة سفن الصيد، لم يختف قط في بلدة مليئة بالصيادين الذين يعتمدون على البحر في بقائهم، فألقوا بالاتهامات على تلك السفن بسرقة لقمة عيشهم ــ في كثير من الأحيان بعنف.
وقال فرح، أحد الصيادين الذين تحولوا إلى قراصنة، لـ«بي بي سي»، وهو ينظر إلى الوضع من خلف وشاحه الأزرق: «جاءت السفن وأخذت كل معداتنا وممتلكاتنا».
ولقد استثمر هو وعدد قليل من الأشخاص الآخرين ما يقرب من 10 آلاف دولار في مشروع صيد لشراء قارب ومحرك خارجي وشباك. لكن فرح يقول إن طاقم إحدى سفن الصيد الأجنبية جاء العام الماضي وسرق الشباك، إلى جانب صيدها، ثم أطلقوا النار على المحرك - مما أدى إلى تدميره.
ويقول فرح، إن بعض أقاربه ذهبوا لفحص شبكاتهم في أحد الصباحات ولم يعودوا أبدًا - وعادة ما يخرج الصيادون عند الفجر ويعودون قبل أن تشتد حرارة منتصف النهار. إلا أنه بعد ثلاثة أيام عثر عليهم على الشاطئ، والرصاصات قد اخترقت أجسادهم.
وتابع: لم يكن لديهم أسلحة، لقد ذهبوا إلى البحر بشباكهم للحصول على لقمة عيشهم. عندما يرهبك أحد ويسرقك، فمن الواجب عليك أن تقاتله. لقد تسببوا في القتال. ولولا أنهم أخذوا ممتلكاتنا لما ذهبنا إلى القرصنة.
وتقول «بي بي سي»، إن هؤلاء الرجال - الذين تتراوح أعمارهم في الثلاثينيات - ليسوا الوحيدين الذين اتخذوا قرارًا خلال العام الماضي باللجوء إلى القرصنة.
وقالت مصادر في ولاية بونتلاند التي تتمتع بحكم شبه ذاتي، حيث تقع مدينة إيل، لـ«بي بي سي»، إنهم يقدرون أن هناك نحو 10 عصابات، كل منها تضم نحو 12 عضوا، تعمل في المنطقة، مشيرة إلى أن أعضاء تلك العصابات يذهبون إلى البحر لمدة تتراوح بين 15 و30 يوماً في كل مرة، محملين في قواربهم السريعة الصغيرة ببنادق AK-47 وقذائف صاروخية (RPGs)، وطعام ووقود.
ويقول فرح إن هدفه اختطاف سفينة متوسطة الحجم في أعماق المحيط الهندي ثم إعادتها إلى سفينتهما الأم، باستخدام نظام التتبع عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) للعثور على السفن الأكبر لاستهدافها، متابعًا: يمكنك مهاجمة السفن باستخدام الزوارق السريعة الصغيرة.
أحد القراصنة الآخرين الذين التقتهم بي بي سي والذي أطلق على نفسه اسم ديرييه يقول: نستخدم قاذفات آر بي جي لإيقاف السفينة. وعندما لا تتوقف، نطلق النار عليها. نحن لا نقتل. الهدف هو الحصول على شيء، وليس القتل. الهدف هو تخويفهم.
تمويل
لكن كل هذه الأسلحة لا تأتي بثمن زهيد ـ لذا تسعى العصابات في الأساس إلى الحصول على التمويل من المستثمرين المهتمين. ويحاول الصيادون الساخطون جس النبض، فتتشكل نقابة تضم في كثير من الأحيان رجال أعمال مختلفين من مدينتي جاروي وبوساسو.
قد يمول أحدهم القوارب، وآخر بالأسلحة، وثالث بالأشياء المتنوعة مثل الوقود. ويستثمر هؤلاء رجال الأعمال أحيانًا في عدة مجموعات على أمل أن تفوز إحداها بالجائزة الكبرى عندما يتم الاستيلاء على سفينة، فيحصلون على نصيبهم من الفدية، تقول بي بي سي.
ومن السهل الحصول على سلاح في إيل، فيمكنك شراء بندقية من طراز AK-47 بنحو 1200 دولار، وهو ما يرجع إلى إرث الحرب الأهلية التي استمرت عقدين من الزمان وسنوات من انعدام القانون.
ويقول فرح وديرييه إنهما لم يشاركا في فترة ازدهار القرصنة ولم يأخذا بأي نصيحة من القراصنة المتقاعدين، والذين بدأ بعضهم أيضًا كصيادين ساخطين. ولقد غادر معظم هؤلاء القراصنة القدامى المنطقة - وفي كثير من الأحيان ذهبوا إلى الخارج.
وفي إحدى الحالات الشهيرة، تبرع أحد القراصنة السابقين - عبد الرحمن باكيلي - بثروته. وفي عام 2020، تبرع بالمنازل والفنادق التي اشتراها في جاروي لمؤسسات خيرية إسلامية، وهو الآن واعظ متجول يتنقل من مدينة إلى أخرى في بونتلاند يحث الناس على عيش حياة متقشفة ومستقيمة أخلاقياً.
وحصلت مدينة أدادو، التي تقع في وسط الصومال والتي استثمر فيها القراصنة في وقت ما، على لقب «المدينة الزرقاء» لأن قصورهم المبنية حديثًا كانت غالبًا ما تحتوي على أسقف من صفائح الحديد المطلية باللون الأزرق.
إلا أن الكثير من هذه المنازل أصبحت الآن فارغة - أو متاحة للإيجار بمبلغ لا يتجاوز 100 دولار شهريًا.
ويقول الرجال الذين يتجمعون أمام محلات الشاي في فترة ما بعد الظهر للعب الدومينو ومناقشة الأخبار إنهم لا يوافقون على القرصنة ــ على الرغم من أنهم يتفهمون العداء تجاه السفن الأجنبية.
تعقيب رسمي
واعترف وزير الإعلام في بونتلاند، كايديد ديرير، بوجود بعض السفن غير القانونية، وقال إن بعض السفن الأجنبية قد تحصل على تراخيص و«تستغلها بشكل خاطئ».
وقال لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): «الصيد غير المشروع موجود في كل البحار، والقرصنة يمكن أن تحدث في أي مكان. والتقدم يحرز تدريجيا».
ولقد كان الصيد غير المشروع قضية مثيرة للجدل في الصومال لسنوات عديدة.
وتعمل العديد من سفن الصيد بدون تراخيص أو بموجب تراخيص صادرة عن هيئات لا تملك السلطة للقيام بذلك، وفقاً للمبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية.
وتشير الأدلة، بما في ذلك بيانات الملاحة عبر الأقمار الصناعية، إلى أن العديد من السفن تأتي من الصين وإيران واليمن وجنوب شرق آسيا. ويشير تقرير صادر عن السفارة الأمريكية في مقديشو إلى أن الصومال يخسر 300 مليون دولار سنويا نتيجة لذلك.
وقال قائد قوات عملية أتلانتا الأميرال مانويل ألفارجونزاليس مينديز إن قواته تستهدف فقط سفن القراصنة، والآن يتعين عليها أيضًا حماية السفن من المتمردين الحوثيين في اليمن.
لكنه يؤكد أن المنطقة أصبحت أكثر أمانا بكثير وأن الصوماليين يستطيعون الآن «إلقاء شباك الصيد الخاصة بهم دون خوف» - كما تفعل قوة شرطة بونتلاند البحرية، التي تعمل بشكل وثيق مع البعثة البحرية للاتحاد الأوروبي.