من أهم خصوصيات النظام السياسي المصري أن مؤسساته السيادية حافظت على تقاليدها منذ إنشائها.
ولم تخضع لعمليات التطهير، أو التغيير مع التحولات الكبرى التي مرت بها الدولة المصرية من الملكية إلى الجمهورية، ومن الاشتراكية إلى الليبرالية، ومن الفاعلية والحضور والقيادة إلى الخمول والانزواء في عهد مبارك. فلم تمس هذه التحولات هيكل ونظم وتقاليد المؤسسات السيادية، ولم تنل من كوادرها البشرية وخبراتها المتراكمة. فقد حافظ نظام جمال عبد الناصر على وزارة الخارجية التي كانت في العهد الملكي، واعتمد نظامه على كوادرها عالية التدريب والتأهيل، والأمر نفسه حدث مع من جاء بعده، وحدث الأمر نفسه في مؤسسات أخرى هي الجيش والشرطة والقضاء والمخابرات وغيرها.
وقد قاد ذلك إلى أن نجحت هذه المؤسسات؛ خصوصاً ما يتعلق منها بالسياسة الخارجية مثل المخابرات ووزارة الخارجية؛ في ترسيخ منظومة من التقاليد والقيم والأعراف أعطتها طبيعة خاصة؛ تختلف عن كثير من الدول في الإقليم؛ وقد تجلى ذلك في معالجة أزمات شمال أفريقيا وشرق المتوسط في مواجهة التغلغل التركي المتسارع الملهوف على الاستحواذ والسيطرة.
على مدى أكثر من سبع سنوات تركت الدبلوماسية المصرية النظام التركي، وكبار مسؤوليه يوجهون النقد غير اللائق للقيادة المصرية، وللنظام الذي جاء بعد سقوط حكم الإخوان، وتغاضت عن كل التجاوزات التي لا تليق بالأعراف الدبلوماسية، أو بالعلاقات بين الدول التي تصدر من الرئيس التركي شخصياً، ومن مساعديه في الوزارة والحزب، وظن الكثيرون أن النظام المصري إما ضعيف لا يستطيع مواجهة تركيا، وإما أنه لا يريد استفزازها لأنه مشغول بمشكلات داخلية أكثر إلحاحاً.
غير أن التطورات الأخيرة تكشف أن الدبلوماسية المصرية كانت تعمل على محاور ومستويات أخرى، بعيدة المدى، عميقة التأثير، تؤلم بعمق دون ضوضاء أو دعاية، فقد نجحت الدولة المصرية في ترسيخ علاقات قوية بجميع القوى المناوئة للنظام التركي، ابتداء من اليونان وقبرص، وانتهاء بالأكراد في شمال سوريا، مروراً بأرمينيا وحتى النظام السوري ذاته فقد حافظت الدولة المصرية على صيغة معينة في تعاملها مع الحرب الأهلية السورية تمنع تركيا وعملاءها من تحقيق أي مكاسب على حساب الدولة السورية.
وبعد مرور أكثر من سبعة أعوام على حالة التوتر الشديدة بين تركيا ومصر كانت النتيجة انتقال النظام التركي من خطاب العداء الشديد لمصر إلى حالة التودد لفتح قنوات للحوار للحفاظ على الحد الأدنى من المصالح التركية في شرق المتوسط، وفي شمال أفريقيا. وذلك بعد أن نجحت الدبلوماسية المصرية في وضع تركيا في مواجهة الاتحاد الأوروبي في شرق المتوسط، وفي مواجهة الأمم المتحدة والعالم في ليبيا، وذلك من خلال سلوك قانوني عميق، وتقاليد دبلوماسية راسخة؛ استطاعت أن تفشل كل الوسائل الشعبوية التي تميز بها الخطاب السياسي للنظام التركي في تعامله مع مجمل هذه الأزمات.
فقد راهن النظام التركي على التوجهات الشعبوية عند قطاعات من الشعوب العربية تحلم بالعودة إلى الماضي البعيد؛ الذي أجريت له عمليات تجميل متعددة في الدراما وفي خطاب الحركات الإسلامية، وظن أن حجم التأييد على صفحات التواصل الاجتماعي وفي القنوات التلفزيونية الموجهة يكفي لخلق الحقائق على الأرض، أو إعادة تشكيل المعادلة الإقليمية؛ توهماً أن العالم يعيش عصر الشعبوية والفضاءات المفتوحة.
وفي المقابل تحركت الدولة المصرية على محاور ثلاثة هي: أولا: الالتزام بالأطر القانونية الدولية، والعمل طبقاً للأعراف والتقاليد الدبلوماسية، والتحرك بصورة رصينة هادئة لا تخضع لضغوط الواقع، أو استفزازات الخصوم، وقد أنتج هذا التحرك مجموعة من الاتفاقيات الدولية؛ تم تتويجها بإطلاق منظمة إقليمية حكومية متخصصة هي منظمة غاز شرق المتوسط، وحرمان تركيا من الوجود فيها أو في اقتسام الثروات. وثانياً: حشد القوى الدولية المتضررة من السلوكيات التركية، ومن الخطاب السياسي التركي الذي يعيد تذكير أوروبا بكل المآسي التي عانتها من العثمانيين؛ الذين طرقوا أبواب عواصمها لمرات عديدة بقوة وقسوة لا تستطيع الذاكرة الجمعية الأوروبية تجاوزها. وثالثاً: تحقيق تراكم في القوة العسكرية المصرية قاد إلى أن تتقدم مصر عدة درجات في سلم موازين القوة العسكرية في العالم، وهنا كانت القوة العسكرية رديفا للدبلوماسية الرصينة، وكان إعلان مصر للخط الأحمر في ليبيا حقيقة لم ولن يستطيع النظام التركي وعملاؤه تجاوزها.
خلاصة القول أن الدولة المصرية بمؤسساتها العريقة الراسخة التي حافظت على تقاليدها على مر العصور نجحت بعد أكثر من سبع سنوات من المواجهة المستمرة في إجهاض أحلام النخبة الحاكمة في تركيا - والتي هي خليط من الإسلاميين والقوميين - في إعادة الهيمنة العثمانية الجديدة على المنطقة العربية، وقادت النظام التركي إلى الدخول في مواجهة مفتوحة مع الاتحاد الأوروبي ستكون عواقبها الاقتصادية والسياسية كارثية عليه، خصوصاً في مرحلة ما بعد أزمة الوباء العالمي كوفيد 19 التي أصابت اقتصادات العالم بخسائر كثيرة؛ خصوصاً في قطاعات السياحة التي يعتمد عليها الاقتصاد التركي بصورة رئيسية، ولن تجدي الشعبوية في مواجهة هذه التحديات على المستويين الدولي والداخلي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة