الأسواق الشعبية.. متاحف يمنية متنقلة تقاوم تجريف الحوثي (صور)
تنتشر الأسواق الشعبية في اليمن، ما يمثل طريقة تقليدية لأهالي المناطق الريفية، لتغدو هوية وتراثا شعبيا يأبى الاندثار.
ومن بين المحافظات اليمنية التي لا تزال الأسواق الشعبية قائمة فيها حتى اليوم تعز والحديدة وحجة، وتعتبر رمزا لتراث شعبي ضارب في القدم، يرفض الخضوع للحرب الحوثية وما أحدثته من تغيير مجتمعي عميق استهدف تقطيع أوصال اليمن.
وما زالت هذه الأسواق تجسد تراث اليمن العريق وتحتفظ بطابع ومظاهر أسواق العرب القديمة والتي عادة ما تقع عند بلدات تربط تجمعات سكانية كبرى وتعد مراكز التقاء، ويطلق عليها "الوعد" كموعد محدد للالتقاء أسبوعيا، ويقام نظامها كل "خميس" وأخرى كل "اثنين" أو "ثلاثاء" أو "أربعاء" أو "جمعة" أو "أحد" أو "سبت".
تعد الأسواق الشعبية بمثابة متاحف متنقلة عابرة للعصور، حيث تحتوي على سلع قديمة ومصنوعات يدوية بالغة الجمال وتحف عجيبة، تنطلق مع إشراقة كل صباح ويستمر صخبها حتى غروب الشمس.
وعلى مدى الأزمنة الماضية، مثل موقع هذه الأسواق، عنصرا مهما في جذب السياح كما كانت ملتقى أسبوعيا للأسر اليمنية الواقعة في مناطق مختلفة، فضلا عن تأمين احتياجاتها من المنتجات الغذائية والسلعية.
ويضم السهل التهامي الحديدة (غرب) كبرى هذه الأسواق كـ "بيت الفقيه"، "الدريهمي"، "الخوخة" "القطيع" التي تقام كل يوم جمعة، و "المغلاف" كل سبت، و"زبيد" كل أحد، و"المراوعة"، "الضحي"، "حيس" كل إثنين، "الزيدية" كل ثلاثاء، "المنصورية"، "باجل" كل أربعاء، "القناوص"، "خميس الواعظات" "سردد "الكدن" كل خميس.
وفي تعز (جنوب) يصل عمر بعض هذه الأسواق إلى أكثر من 400 عام، سوق "الكدحة" الذي يقام يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وسوق "البيرين" الذي كان يقام يوم الأربعاء، وسوق "الخميس" والذي يقام بنفس ذلك اليوم الذي يسمى به، وسوق "الأحد" في منطقة الشعوبة، وسوق الثلاثاء بمديرية ماوية.
بجانب تعز والحديدة لاتكاد تخلو بلدة أو محافظات يمنية أخرى منها، إذ ما تزال تقليدا قائما في صنعاء، صعدة، حجة الحديدة، والمحويت، حضرموت وعدن وهي أسواق أسبوعية تشهد حركة تجارية نشطة.
وحافظت هذه الأسواق على مكانتها، وظلت لعقود تنضح برائحة التاريخ والتوابل الزكية، وقاومت التغيرات التي حدثت في قطاع التجارة كانتشار المولات التجارية، نظرا لما توفره من زوايا للتجار الصغار البائعين الجوالين ومنتجي الأجبان.
وجهة للنساء والحرفيين
قديما كانت النساء الريفيات، يجدن ضالتهن في بيع ما يصنعنه داخل المنازل، سواء تعلق الأمر ببيع الخبز في تلك الأسواق، أو بيع أغطية الرأس والتي يتم حياكتها يدويا، ويطلق عليها اسم"الكوافي" أو بيع "الجبن".
كما كانت تباع فيها البيض والدجاج و"المشاقر" التي تتزين بها المرأة، وهي ثمار نباتات عطرية، لها رائحة زكية، تتزين بها النساء الريفيات من خلال وضعها في خدودهن لإضافة لمسة جمالية، فضلا عن رائحتها العطرية الطيبة.
ورغم أن بيع الخبز المصنوع من الحبوب المزروعة محليا، لم يعد بذات الكمية التي كان عليها، كما أن حياكة أغطية الرأس اندثرت تماما مع توفر الأشمغة المستوردة.
وبالنسبة للمنتجين الحرفيين، والصناع التقليديين لاسيما الخناجر اليمنية، والأواني الفخارية والحجرية، فإن تلك الأسواق توفر لهم زوايا وأقسام محددة لبيع منتجاتهم.
تقليد لم يندثر
ورغم حرب مليشيات الحوثي، إلا أن تلك الأسواق ظلت عامرة بمرتاديها، كما ظل أهالي الريف غير القادرين على التنقل إلى مناطق أخرى جراء الحرب الحوثية، يقتنون حاجتهم منها.
وقدمت تلك الأسواق، خدمة كبيرة للسكان الريفيين الذين أحاطت بهم المعارك من كل جانب، فعلاوة عن أنها استمرت في توفير السلع والمنتجات أثناء حرب مليشيات الحوثي، فإنها كانت قريبة من تجمعاتهم السكانية الضخمة.
وقال مهيوب الجبلي أحد سكان المنطقة لـ"العين الإخبارية"، إن المدنيين كانوا حذرين من الانتقال إلى مناطق ملتهبة، إذ كانت البلاد تعيش فوضى حرب مليشيات الحوثي، ولذا كان شراء المتعلقات من تلك الأسواق وجهة وحيدة ضرورية.
وأضاف أن الأسواق تقليد لم يندثر وزاد ازدهارها، مقارنة بما كانت عليها قبل ذلك، وأصبحت تعج بالمتسوقين، فيما وجد رجال الأعمال الصغار فرصة في تنمية تجارتهم.
وأكد أن بعض التجار ارتفعت تجارتهم وزاد دخلهم، وتبدلت أحوالهم، وأصبحوا من كبار المستوردين للبضائع والماشية.
ورغم محاولة مليشيات الحوثي المتكررة، إغلاق تلك الأسواق، وحرمان المدنيين من شراء حاجاتهم، من خلال استهدافها بقذائف الهاون، إلا أنها ظلت عامرة، فيما هناك أسواق أخرى اندثرت إثر تحولها لساحة حرب كـ"سوق "الكدحة" و"البيرين" في تعز، بحسب جبلي.
وقال الباحث بالتاريخ الشعبي لليمن محمد حسام سيف لـ"العين الإخبارية"، إن احتفاظ الأسواق الشعبية بمكانتها، يعود إلى عوامل عدة منها أن المنتجين الصغار لا سيما في الأرياف والمناطق النائية، يجدون ضالتهم في بيع منتجاتهم في تلك الأسواق، كما هي بالنسبة إلى المشترين الذين يحصلون على مبتغاهم منها لما تتيح لهم من فرص في اقتناء السلع بالمبالغ المالية التي يمتلكونها.
ولا يتعلق الأمر هنا بالبضائع المقلدة أو تلك التي لا تتسم بالجودة، وإنما لقناعة الناس في بيع مالديهم بمبالغ مناسبة دون مغالاة، حسب ما يضيف سيف لـ"العين الإخبارية".
وتقدم الأسواق فرصة لمربي الماشية، وبائعي الخضروات والفواكه الطازجه والحبوب والأجبان المصنعة محليا، والحرف اليدوية، إذ يتم التفاوض بين البائع والمشتري، للوصول إلى مبلغ محدد مرضي للطرفين.
كما تقدم فرصة لباعة السمسم والبن والعسل البلدي والحلاوة باعتبارها مصنوعات تقليدية لطالما اشتهرت بها اليمن وأصبحت جزءا من هويته العريقة.
حكاية حسان
ولمحمد حسان (60 عاما) حكايته المختلفة في شراء حاجاته من الأسواق الشعبية بمبالغ تصل إلى النصف من قيمتها الحقيقية في ذروة التسوق اليومي.
ولا تتوافر بالقرب من منطقته الريفية الواقعة غرب محافظة تعز الواقعة جنوب اليمن، مولات تجارية، ويحرص على أن تكون الأسعار رخيصة إلى أقصى حد.
يقول لـ"العين الإخبارية": "أنتظر حتى يبدأ المتسوقون بالتأهب للعودة إلى منازلهم الريفية، يبدأ ينفرط عقد سوق البيرين وهو سوق شعبية يعود إلى 200 عام، أبدأ في التبضع"، يوضح: "مع بدء مغادرة الناس للسوق، يتحمس البائعون لبيع كل ما لديهم فأتفاوض معهم على سعر مرضي للطرفين".