تونس وثلاثية.. قرطاج - القصبة - مونبليزير
العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وحركة النهضة مرت بكل أشكال التفاعلات الممكنة بين الأطراف الـ3 منذ عام 2011.
منذ أن رحل الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي عن مقاليد الحكم في يناير/كانون الثاني عام 2011 إثر ثورة شعبية، ثم وضع دستور جديد بعد ذلك بـ3 أعوام وتحديدا في يناير/كانون الثاني 2014، شهدت تونس تطورين أساسيين؛ الأول هو ظهور حركة "النهضة" بتوجهاتها وجذورها الإخوانية كفاعل رئيسي على الساحة السياسية التونسية.. والتطور الثاني هو إعادة تشكيل العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لصالح الأخير الذي يستمد شرعيته من انتمائه إلى الحزب الحاصل على الأغلبية في الانتخابات التشريعية.
ومن هنا فإن عنوان هذه الورقة يشير إلى المقار التي تعمل منها القوى الـ3 الرئيسية في النظام التونسي منذ 2011، أي "قرطاج" حيث مقر رئاسة الجمهورية، و"القصبة" حيث مقر الحكومة، و"مونبليزير" حيث مقر حركة النهضة.
العلاقة بين هذه الأطراف/المراكز الـ3 هي علاقة متغيرة ومرت تقريبا بكل أشكال التفاعلات الممكنة من التعاون الوثيق في ظل حكومة الترويكا التي استمرت من 2011 حتى مطلع 2014، إلى تعاون الضرورة بين قرطاج ومونبليزير في بداية حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي من أجل إنجاح السبسي في الجولة الانتخابية الثانية، ثم إلى التوتر والشد والجذب بينهما على خلفية التقارب بين مونبليزير والقصبة بسبب الموقف من حكومة يوسف الشاهد، وانتهاء بالصراع المفتوح بين قرطاج ومونبليزير إلى حد اتهام الباجي قائد السبسي حركة النهضة بالوقوف وراء اغتيال بعض قيادات المعارضة والحديث عن وجود جهاز سري للحركة.
أين يقع البرلمان من هذه التجاذبات كافة؟
البرلمان هو الساحة التي تنعكس عليها التفاعلات بين الأطراف الـ3؛ ففي وقت تقارُب مونبليزير مع القصبة وقف البرلمان ومقره "قصر باردو" حائط سد أمام إسقاط حكومة الشاهد التي أراد السبسي إسقاطها، وفي وقت التقارب بين قرطاج ومونبليزير تمت التضحية برئيس الحكومة القابع في القصبة وكان في ذلك الوقت هو حبيب الصيد، وفي هذا السياق صوت البرلمان على سحب الثقة من الصيد ومن بعد تم وضع وثيقة قرطاج التي حددت مهام حكومة الوحدة الوطنية لمهدي جمعة.
الآن وقد انتهت الانتخابات الرئاسية المبكرة وكذلك الانتخابات التشريعية في تونس، ففي أي اتجاه يمضي التفاعل بين ثلاثي قرطاج.. القصبة.. مونبليزير؟ سؤال تتوقف إجابته على تحديد أهم معالم المشهد السياسي التونسي الجديد ورسم صورة عن قرب لهذا الثلاثي المؤثر في المسار الديمقراطي.
رئيس جديد يكرّس كسر احتكار الساحل
ذهبت معظم التحليلات السياسية التي تناولت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية إلى التركيز على أننا إزاء رئيس جديد من خارج النخبة الحاكمة لا عهد له بالعمل السياسي، أستاذ جامعي متخصص في القانون الدستوري وهذا تخصص نادرا ما ينتمي إليه رؤساء الدول في منطقتنا العربية، ثم إنه عصامي قاد مع طلابه الحاليين والسابقين حملة نشطة وضعت نصب عينيها الوصول إلى السلطة لتحقيق حلم التغيير.
هذه إذن هي الصورة العامة للرئيس، لكن أحدا في حدود ما أعلم لم يتعرض لتغيير مهم جسّده صعود قيس سعيد إلى السلطة، وهذا هو التغيير الجهوي.. فقد اعتاد التونسيون منذ الاستقلال حتى عام 2011 أن تأتي النخبة الحاكمة من أول رئيس الجمهورية مرورا بعدد لا بأس به من الوزراء والنواب والحزبيين من ولايات الساحل الـ3، وهي المنستير وسوسة والمهدية، ثم جاء المنصف المرزوقي المنتمي لإحدى مدن ولاية نابل بالجنوب التونسي فكسر هذه القاعدة، وتكرّس الأمر مع الباجي قائد السبسي الذي ينتمي إلى جماعة تونس العاصمة، وها هو قيس سعيد قد جاء من ولاية إريانة بالشمال الغربي ليكمل مثلث التغيير .
هذا الوضع يطرح السؤال التالي: هل نحن إزاء تجديد كامل أو شبه كامل للنخبة الحاكمة؟ إجابة السؤال مؤجلة لحين تشكيل الحكومة ودراسة خلفية النواب، لكنها إجابة مهمة على أي حال؛ فثمة علاقة بين الانتماء الحزبي والاتجاه السياسي، وإن تكن علاقة غير ميكانيكية، وعليها يتوقف شكل التفاعل بين أطراف مثلث "قرطاج.. القصبة.. مونبليزير".. لقد توقع البعض قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة أن يصطف أهل الساحل وراء أحد المرشحين الذين ينتمون لأي من ولاياته الـ3 مثل وزير الدفاع السابق عبدالكريم الزبيدي أو رئيس الوزراء السابق مهدي جمعة، لكن هذا لم يحدث.
النهضة.. حضور دائم وتراجع مضطرد
الحكومة.. خيارات مفتوحة صعبة
وفق الفصل 89 من الدستور التونسي لعام 2014 فإن رئيس الجمهورية يكلّف مرشح الحزب أو الائتلاف الحزبي الفائز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية بتشكيل الحكومة خلال مدة شهرين على الأكثر، فإن لم يحز تشكيل الحكومة على ثقة البرلمان كلّف رئيس الجمهورية شخصا آخر بتشكيل الحكومة خلال شهر على الأكثر، وذلك بعد التشاور مع الأحزاب والائتلافات الحزبية داخل البرلمان؛ فإن لم تحصل التشكيلة الحكومية الجديدة على ثقة البرلمان اتخذ الرئيس قرارا بحل البرلمان ودعا لانتخابات مبكرة.
كل خطوة من هذه الخطوات الـ3، من أول تكليف مرشح الحزب أو الائتلاف الحزبي الحائز على الأغلبية البرلمانية حتى حل البرلمان، إنما تمثل احتمالا واردا في ظل الوضع الراهن، وفي أحسن الظروف فإن سريان الاحتمال الأول أي نجاح رئيس حزب الأغلبية في تشكيل الحكومة يتطلب جهدا كبيرا جدا.. يتضح ذلك لو نظرنا نظرة مقارنة لبرلمان 2014 وبرلمان 2011؛ ففي الحالة الأولى كان لدينا تمثيل برلماني لـ18 قائمة انتخابية ما بين حزبية وائتلافية ومستقلة، وفي الحالة الثانية لدينا تمثيل برلماني لـ٣١ قائمة انتخابية من نفس الفئات الـ3 الحزبية والائتلافية والمستقلة، وواضح جدا حجم التشتت في التمثيل؛ ففي 2019 ويكفي أن نعلم أن لدينا في هذا البرلمان 17 لائحة حصل كل منها على مقعد واحد فقط!
ويزيد في صعوبة الأمر أن العديد من هذه اللوائح نظرا لحداثتها بالعمل السياسي من غير المعروف اتجاهاتها بدقة في حين أن تشكيل حكومة تحظى بالأغلبية البرلمانية سيجبر الحزب الفائز -أي النهضة- ربما على اللجوء إلى عدد من القوائم ذات المقاعد الأحادية.
وثمة ملاحظة أخيرة بخصوص حزب "نداء تونس" الذي هوى رصيده من 86 مقعدا في 2014 إلى 3 مقاعد فقط في 2019.. وبالمناسبة فإن النتائج التي حققها "نداء تونس" في الانتخابات البلدية لم تكن سيئة، صحيح أنه حصل على 21% من الأصوات مقارنة بالنهضة التي حصلت على 33% منها، لكن الفارق بينهما لم يكن بضخامة الفارق في مقاعد برلمان 2019؛ حيث حصلت النهضة على 52 مقعدا.
على أي حال فإن "نداء تونس" لم يكن حالة استثنائية في برلمان 2019، الذي شهد صعودا قويا وهبوطا قويا آخر؛ فلقد صعد التيار الديمقراطي الممثِّل لليسار الاجتماعي من 3 مقاعد في 2014 إلى 22 مقعدا في 2019، وظهر لأول مرة حضور قوي لذوي الاتجاهات السلفية في برلمان 2019 من خلال قائمة ائتلاف الكرامة الحاصل على 21 مقعدا وقائمة حزب الرحمة الحاصلة على 3 مقاعد، أما بالنسبة للقوى السياسية المتراجعة فلقد تراجعت مقاعد قائمة الجبهة الشعبية التي تمثل أقصى اليسار من 15 مقعدا في 2014 إلى مقعد واحد في 2019، كما تراجعت قائمة مقاعد حزب آفاق تونس رمز الليبرالية الشديدة من 8 مقاعد إلى مقعدين اثنين .
إن التجربة الديمقراطية التونسية هي تجربة غنية جدا وديناميكية جدا وتواجهها تحديات ضخمة تتعلم من إداراتها ونحن أيضا نتعلم ونتابع حركة التفاعل بين الأمكنة والمؤسسات والأشخاص.