التضخم يجتاح العالم.. جنون الأسعار قنبلة عصية التفكيك
اجتاحت العالم موجة من ارتفاع أسعار السلع وسط أزمة الإمدادات وارتفاع أسعار الطاقة، رغم تحرك الحكومات من خلال تقديم وسائل الدعم المناسبة.
فهذه على سبيل المثال كينيشا هاري، وهي أم لستة أطفال وتعيش في كندا، نشرت قبل أسبوعين مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي حقق ملايين المشاهدات، وفي تقرير لشبكة CBS الإخبارية أجرت من خلاله حواراً مع هاري، التي تروي معاناتها في تدبير الأموال الكافية لإطعام أطفالها، على الرغم من أنها تحظى بدعم حكومي يتمثل في كوبونات الغذاء، لكن كمية السلع التي تستطيع شراءها تنخفض كلما ارتفعت الأسعار لأن مبلغ الدعم ثابت ولم يحظى بزيادة مؤخراً.
ووفقاً لمركز معلومات "أرقام" فإن مستويات التضخم حالياً غير مسبوقة منذ سنوات، ويختلف وصف "غير مسبوقة" بين دولة وأخرى بطبيعة الحال وباختلاف الظروف وأساسيات اقتصاد كل دولة، لكن بغض النظر عن الأرقام القياسية، تكمن المشكلة الحقيقية في أن أزمة ارتفاعات الأسعار الحالية تأتي مدفوعة من عدة أزمات متزامنة وعميقة ومركبة، وبالتالي هناك صعوبة بالغة في تفكيك كل أزمة على حدة والتعامل معها بمفردها.
قنبلة مليئة بالأسلاك المتشابهة
تفكيك الأزمة التي يمر بها الاقتصاد العالمي ومستويات الأسعار تشبه إلى حد كبير تفكيك قنبلة مليئة بالأسلاك المتشابهة، لكن ما هي مكونات الأزمة الحالية؟
وتأتي مكونات أزمة الاقتصاد العالمي في 2021 على النحو التالي:
أزمة الطلب المرتفع، التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2020 وخاصة مع توسع التطعيمات وانتشار اللقاح.
أزمة سلاسل الإمداد، والتي بدأت في مارس/آذار الماضي وظهرت في البداية بقطاع أشباه الموصلات ثم توسعت لتشمل كل شيء تقريبا.
جاء ذلك بالتزامن مع أزمة الموانئ وخطوط الملاحة في يونيو الماضي، حيث ظهرت في البداية في الصين مع تفشي الجائحة في عدة مناطق تتسم بدورها المحوري في الصناعة البحرية مثل ميناء "شينزن"، إلى جانب أزمة الحاويات والشحن.
أزمة في العرض/الإنتاج، حيث بدأت قفزات الأسعار في التضاعف مع تزايد الضغط من جانب الطلب وثبات عدد الحاويات المتاحة للاستخدام في عمليات الشحن البحري والتجارة الدولية بين المستوردين (الطلب) والمصدرين (العرض)، ونتج عنها انخفاض كمية المعروض من السلع والمنتجات.
أزمة المناخ
وبدأت أزمة المناخ تلقي بظلالها على العالم في أغسطس وسبتمبر الماضيين، حيث أدت الفيضانات والسيول والانهيارات في التربة إلى مشكلات في المحاصيل الزراعية والإنتاجية من عدة سلع زراعية خاصة في الدول الرئيسية مثل الولايات المتحدة وروسيا والبرازيل وشرق أوروبا.
جاء ذلك بالتزامن مع أزمة الطاقة في الصين، حيث ظهرت في البداية بمقاطعات "جواندونج" و"جيانج سو" و"زهينجيانج"، وامتدت لتشمل المصانع في 20 من 31 مقاطعة صينية لترشيد استخدام الكهرباء وتقليل استهلاك الطاقة، وبالتالي خفض الإنتاج والمخرجات.
أزمة تضخم أسعار الغذاء عالمياً حيث أعلنت منظمة الأغذية العالمية، "الفاو" أن مؤشرها الذي يقيس أسعار الأغذية سجل أكبر زيادة منذ يوليو 2011.
ونتج عن الأزمة انخفاض الكمية المتاحة عن الكمية المطلوبة، إضافة إلى ارتفاع الأسعار على طالبي الخدمة مما تسبب في تضخم الغذاء.
يعتقد البعض أن مستويات الأسعار مرتفعة لأنه تتم المقارنة مع فترات الجائحة، لكن في حقيقة الأمر فإن المقارنة بفترات ما قبل الجائحة تثبت أن الأسعار مازالت مرتفعة للغاية
ارتفاع أسعار السلع الأولية
قفزت أسعار الطاقة خلال الشهور الماضية بمختلف مشتقاتها، ولعب التغير المناخي دوراً في موجات التضخم الأخيرة، حيث أدت الحرارة المرتفعة عن المعتاد إلى ارتفاع الطلب على الطاقة الكهربائية لتشغيل مكيفات الهواء وغيرها، وساهم الجفاف في خفض إمدادات الطاقة الكهرومائية، بينما أثرت الفيضانات على بيئة عمل المناجم، وبالتالي خفضت من إمدادات بعض المعادن والفحم، أما بالنسبة لمنهجية المقارنة فبالطبع تجاوزت الأسعار مستويات ما قبل الجائحة.
ارتفاع أسعار الأسمدة
أدى تعافي أسعار الطاقة، وخاصة الفحم والغاز الطبيعي، إلى زيادة حادة في تكاليف مدخلات الإنتاج الزراعية، وهذا بالطبع ينعكس على السماد والذي ارتفعت أسعاره بأكثر من 55% منذ يناير الماضي فقط، وصلت الأسمدة إلى قمة لم تصلها منذ 2008، أي أن الأمر تجاوز مسألة المقارنة بفترة ما قبل الجائحة بعقد كامل من الزمن، وهو ما ساعد على تغذية ارتفاعات أسعار كافة السلع الغذائية الأخرى ودفع العديد من شركات الكيماويات حول العالم إلى تقليص خطوط إنتاجها نظراً لاستحالة البيع بنفس الكميات عند الأسعار الحالية في الأسواق.
ارتفاع أسعار المعادن الأساسية
استمرت معظم أسعار المعادن الأساسية في الارتفاع مدفوعة بالتعافي الاقتصادي ونمو الطلب الكبير، بالتزامن مع تعطُل الإنتاج بسبب نقص إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها التي تؤثر مباشرة في أسعار المعادن التي يلزمها كثير من الطاقة من أجل عمليات التكرير والمعالجة، موجة الارتفاعات شملت القصدير والألومنيوم والزنك، ومثلما حدث مع الأسمدة وشركات الكيماويات، قامت بعض منشآت ومصانع تكرير ومعالجة المعادن بخفض أو إيقاف الإنتاج بسبب موجة التضخم.
إلى أي مدى يمكن لذلك الوضع أن يستمر؟
يشير البنك الدولي، إلى أن أسعار الطاقة - التي يتوقع أن ترتفع في المتوسط أكثر من 80% في عام 2021 مقارنة بالعام الماضي- ستظل عند مستويات مرتفعة في عام 2022، لكنها ستبدأ في التراجع في النصف الثاني من ذلك العام -أي 2022- مع تخفيف قيود العرض.
ومن المتوقع أن تنخفض أسعار السلع غير المرتبطة بالطاقة، بما في ذلك المنتجات الزراعية والمعادن، في عام 2022، بعد تحقيق مكاسب قوية هذا العام .
قال أيهان كوسي، رئيس الخبراء الاقتصاديين بالبنك الدولي: "إن الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة يشكل مخاطر كبيرة في الأمد القريب على التضخم العالمي، وإذا استمر فقد يؤثر أيضا على النمو في البلدان المستوردة للطاقة".
أما بالنسبة للمعادن، ومع تراجع النمو العالمي وتعطل الإمدادات، فمن المتوقع أن تنخفض أسعار المعادن 5% في عام 2022، بعد ارتفاعها بنسبة تقدر بنحو 48% في عام 2021 حتى أكتوبر الجاري، أما المحاصيل الزراعية، فبعد أن حققت زيادة بنسبة 22% في عام 2021، من المتوقع أن تنخفض انخفاضاً طفيفاً في العام المقبل مع تحسن ظروف العرض واستقرار أسعار الطاقة.
أوضح جون بافيز، الخبير الاقتصادي الأول بالبنك الدولي: "يؤثر ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والفحم على إنتاج السلع الأولية الأخرى ويشكل مخاطر على توقعات الأسعار، فقد تقلص إنتاج الأسمدة بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والفحم، وأدى ارتفاع أسعار الأسمدة إلى زيادة تكاليف مستلزمات المحاصيل الغذائية الرئيسية، وانخفض إنتاج بعض المعادن مثل الألومنيوم والزنك بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة أيضًا."
توقعات متفائلة لكن غير يقينية
يمكن تلخيص التوقعات في أنه يجب الانتظار حتى منتصف العام المقبل قبل متابعة تحسن ومن ثم انخفاض في الأسعار وهدوء في موجة التضخم المستعرة حالياً، لكن هل هذه التوقعات المتفائلة يقينية أم قد تؤثر عليها عوامل أخرى؟ بالطبع هناك متغيرات قد تعكر صفو هذه الآفاق الإيجابية بحلول منتصف 2022، منها على سبيل المثال:
مخاطر التقلبات المناخية المعاكسة وغير المواتية لهدوء موجة التضخم.
التعافي غير المتكافئ بين بلدان العالم من آثار جائحة كورونا.
عدم التساوي في معدلات التطعيم بين الدول المتقدمة والدول منخفضة الدخل.
تهديدات ظهور متحورات جديدة أشد وأكثر تعقيداً للوباء.
قُرب نفاد مخزونات الطاقة والحبوب لدى عدد من الدول قبل أن يبدأ انحسار موجة التضخم.
aXA6IDMuMTQyLjE1Ni41OCA= جزيرة ام اند امز