مالي تجرّ فرنسا إلى «قفص التاريخ».. العدالة تبدأ بالتعويضات

من قلب باماكو، تتعالى الأصوات مطالِبة بعدالة تاريخية لم تُنجَز بعد، وأخرى اقتصادية أصبحت ضرورية لكسر إرث استعمار لم يُشيع إلى مثواه الأخير رغم مرور عقود.
ففي مالي، لم تعد مسألة التعويضات من فرنسا قضية رمزية أو ترف سياسي، بل باتت مطلبا شعبيا مدفوعا بالغضب من واقع اجتماعي واقتصادي مختل، تقف خلفه قرون من «الهيمنة».
عدالة قد تجبرها التعويضات التي لم يعد شعوب الساحل وفي طليعتها مالي، ينظرون إليها كأرقام في دفاتر الأمم، بل كركيزة لبناء استقلال حقيقي، وفك ارتباط قسري بمرحلة تاريخية تُلقي بثقلها على المستقبل.
وبين إرادة الداخل وضغط الشارع، وتململ المؤسسات الإقليمية، تبدو اللحظة مواتية لإعادة رسم العلاقة مع فرنسا، لا على أساس «الهيمنة»، بل على أساس العدالة، ورد الاعتبار.
فهل حان الوقت لبناء علاقة جديدة بين فرنسا وأفريقيا؟
يقول خبراء فرنسيون متخصصون في الشؤون الأفريقية إن المطالب بالعدالة والتعويضات من فرنسا تتماشى مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي في منطقة الساحل.
فـ«الاستعمار الفرنسي لا يزال يشكل عائقًا أمام تقدم العديد من دول المنطقة، خاصة أن فرنسا قد استفادت بشكل كبير من موارد هذه الدول، ما أدى إلى تراكم الثروات على حساب الشعوب المحلية»، يقول الدكتور جان لوك بوافير، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس.
وأوضح بوافير، في حديث لـ«العين الإخبارية»: «لا يمكن تجاهل المطالب بالعدالة، لأن الشعوب تتوق إلى الاعتراف بمعاناتها التاريخية، وهو حق مشروع يجب على المجتمع الدولي الالتزام به».
بدوره، قال الخبير الاقتصادي جيروم لوكلير، إن مطالبة مواطني مالي بالعدالة والتعويضات تفتح نافذة فرصة لإعادة النظر في التاريخ الاستعماري وفرص أفريقيا لتحقيق استقلال اقتصادي حقيقي، ما يتطلب اعترافًا من فرنسا والمجتمع الدولي وتقديم تعويضات تتماشى مع الأضرار التي لحقت بهذه البلدان في إطار من العدالة والشفافية.
وأوضح الخبير الاقتصادي في حديث لـ«العين الإخبارية»، أن «التعويضات ليست فقط مسألة مالية، بل أيضًا خطوة نحو ضمان تنمية اقتصادية مستقلة بعيدة عن التأثيرات الاستعمارية السابقة، والتي كانت تحد من قدرة هذه الدول على تحقيق تقدم حقيقي».
وأشار إلى أن «الاستعمار الفرنسي في مالي وبقية دول الساحل قد أسس لاقتصادات تعتمد على الهياكل التي لم تلبِ احتياجات السكان المحليين».
هل هناك صدى شعبي؟
إلى ذلك، نقل موقع "lepays.bf" المالي الناطق بالفرنسي، شهادات السكان، في شوارع العاصمة المالية، والذين اتفقوا على نفس النتيجة: الاستعمار قد عرقل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
لكن بالنسبة للعديد من الماليين، فإن الأمر لا يتعلق فقط بتجاوز الماضي، بل بالحصول على تعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم. أحد السكان في العاصمة باماكو، قال: «لقد تأخرنا كثيرًا بسبب الاستعمار.. فرنسا مدينة لأفريقيا».
هذه الكلمات تجد صدى في تصريحات أخرى، لأحد سكان باماكو الذي يتحدث عن صدمات العبودية والسيطرة الاستعمارية، قائلا: «تم أسر أجدادنا وبيعهم كالحيوانات.. لقد تم تدمير عائلات بأكملها على يد فرنسا».
وبالنسبة لهؤلاء، فإن التعويضات ليست مجرد رمز، بل ضرورة لإعادة التوازن الاقتصادي العالمي «غير العادل وتصحيح خطأ تاريخي تم تجاهله لفترة طويلة».
فـ«ما زلنا متخلفين اقتصاديًا بسبب نهب فرنسا. يجب على فرنسا أن تدفع ثمن هذه الجرائم»، كما يقول شاب غاضب.
وفي باماكو، لا تزال آثار الاستعمار قائمة: من بنية تحتية متهالكة، مرورا بأنظمة تعليمية غير ملائمة، إلى الاعتماد المالي على الفرنك الأفريقي، في ندوب لا زالت تحمل إرث عقود خلت.
ويعبر مواطن مالي رفض الكشف عن هويته، عن أسفه جراء ذلك الوضع، قائلاً: «جميع البلدان التي استعمرتها فرنسا تظل متخلفة اقتصاديًا واجتماعيًا».
هل تقف مالي وحدها؟
إلى جانب مالي، تبرز دول تحالف دول الساحل (بوركينا فاسو والنيجر) كأهم الجهات «الناقمة» على هذا الإرث الاستعماري، رافعة شعار المعارضة الشديدة للنيوليبرالية الفرنسية، مما يجعل تلك البلدان الثلاث لاعبا رئيسيا في «رحلة النضال» من أجل التعويضات.
في مواجهة هذه المطالب المتزايدة، سيكون من الحكمة أن تفكر السلطات في الاتحاد الأفريقي في إمكانية تقديم طلب جماعي للتعويضات أمام الهيئات الدولية، بحسب خبراء.
خطوة قد لا تصحح فقط الظلم التاريخي، بل تفتح أيضًا الطريق لإعادة بناء أسس اقتصادية شاملة ومستقلة وعادلة لأفريقيا، بحسب الخبراء الذين أكدوا، أنه بينما لا يمكن كتابة التاريخ من جديد، لكن يمكن الاعتراف به.
aXA6IDMuMTM2LjIzLjI1MiA=
جزيرة ام اند امز