ترك السلطان قابوس عمان العزيزة، لكنها لن تترك مجده وإرثه وأعتقد جازماً بأن عمان ستبقى وفية لمسيرته
كنت لحوحاً، إلحاح الإعلاميين، بطلبي أن يجري معي لقاءً تلفزيونياً عن تجربته بانتشال عمان من العصور الوسطى إلى ما وصلت إليه اليوم، "بلد مزدهر مستقر وآمن يحظى باحترام العالم أجمع".
وكان متواضعاً تواضع العلماء بطلب إعفائه من اللقاء الإعلامي "لأننا نحب أن نعمل أكثر مما نتكلم"، كررها. كان هذا اللقاء في ديسمبر (كانون الأول) عام 2009 في آخر زيارة للراحل الكبير قابوس بن سعيد، سلطان عمان، للكويت، والذي وافاه الأجل فجر السبت 11 يناير (كانون الثاني) 2020.
كررت طلبي ملحاً: "ما تحقق بعهد جلالتكم خلال العقود الأربعة الماضية على الرغم من شح الإمكانات، لم يعد ملكاً لكم، مع الاحترام لمقام جلالتكم، فلقد أصبح مفخرة لنا جميعاً كخليجيين وعرب، وبالتالي فلا تحرم أبناء هذه المنطقة من شرح دروس في البناء والتنمية والاستقرار". تبسم، رحمه الله، وبصدر رحب قال لي: "أعدك بأني إن أجريت لقاءً تلفزيونياً فسيكون معك".
تذكرت بوفاته قصة أخرى سردها لي الصديق النائب والوزير السابق أحمد الربعي، رحمه الله، "قمت بزيارة مسقط عام 1992 للمرة الأولى وزيراً للتربية في الكويت. وكنت قد غادرت مسقط عام 1973 مخفوراً إلى الكويت حيث كنت مسجوناً بمسقط لانضمامي "للجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتل"، ومطلوباً للكويت لارتكاب تفجيرات فيها احتجاجاً على تزوير انتخاباتها عام 1967.
هكذا ترك السلطان قابوس عمان العزيزة، لكنها لن تترك مجده وإرثه، وأعتقد جازماً بأن عمان ستبقى وفية لمسيرته، وسائرة على دربه لزمن طويل جدا.
"استقبلني السلطان قابوس"، والكلام ما زال للربعي، "استقبلني من كان سجّاني قبل عقدين، ولكنه بتلك الزيارة كان مضيفي، فقلت له: جلالة السلطان، أتيتك من عدن حيث نجحت ثورتنا، إلى مسقط حيث لم تنجح ثورتنا ولله الحمد والمنة".
ولعل قصة سردها لنا السيد يوسف بن علوي، وزير الشؤون الخارجية العماني، تختزل الحلم وبُعد النظر لدى السلطان قابوس بن سعيد. قال السيد بن علوي: "كنت عضواً بالمكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير عمان، وكنت أكتب بيانات الجبهة من اللواء 35 في الجيش الكويتي بدولة الكويت، حيث كنت أعمل جندياً بالستينيات بعد أن أنهيت دراستي فيها، وقد تحققت لنا مطالبنا بالبنى التحتية والتعليم والصحة وفرص العمل، وطلبنا المشاركة في القرار فاستوعبنا السلطان قابوس جميعاً".
قصة لقائي الأخير بجلالة السلطان قابوس تعطي فكرة عن تواضع شخصية الراحل الكبير، وفلسفته بالعمل من أجل بلاده ومن أجل المنطقة بشكل عام، عمل كان يحرص على إنجازه من دون بهرجة وأضواء إعلامية، كان همّه تمتع شعبه بالإنجازات وليس التفاخر والتباهي بها. كانت عمان تتجسد في شخصيته الهادئة الدؤوبة الصبورة التي لا تكل ولا تمل من السير بخطى حثيثة باتجاه مزيد من الرخاء والاستقرار.
كما تختزل قصة الربعي، بعد لقاء جلالته للمرة الأولى منذ أن غادر عمان مكبلاً بالقيود، المقارنة الفارقة التي حققها السلطان قابوس بعمان، وما كان يمكن أن تكون عليه السلطنة لو أن الثورة التي اندلعت بظفار في منتصف ستينيات القرن الماضي، نجحت كما نجحت في الجنوب اليمني. كانت عدن، ولا تزال مع الأسف الشديد، محطمة منهكة من الحروب والاقتتال بين الشمال والجنوب، والحروب الداخلية بين رفاق الحزب الاشتراكي اليمني الذي حكم الجنوب. بينما كانت مسقط فتية تتجدد، وحالمة تتطلع، وبنّاءة تتمدد.
قصة لقاء السلطان قابوس بالربعي تختزل ما تحقق من نهضة وعمران واستقرار وبناء في عهد قابوس مقارنة بما لم يتحقق بالثورات والديماجوجية والفوضى بعدن والجنوب اليمني أو بأي مكان آخر في عالمنا العربي المضطرب.
وتعبر قصة السيد يوسف بن علوي من ثائر ضد النظام إلى وزير لدبلوماسية النظام ولسلطنة عمان عن حلم وبعد نظر السلطان قابوس، غفر الله له، فلم يلغ المعارضة، ولم يسحل ويقتل ويعتقل ويشرد من حملوا السلاح ضده بالأمس القريب، لكنه آثر بحكمته النادرة، أن يستوعب أبناء شعبه، وهو واثق بأن مطالبهم سوف تتحقق، وبأن ثورتهم سوف تتلاشى، وبأن نفوسهم سوف تهدأ بالإنجاز والبناء.
غادر السلطان قابوس دنيانا، ورحل عن عمان بجسده، لكنه ترك أثراً عمره نصف قرن من العطاء والدروس والنماذج.
نُكّست الأعلام في عمان، ولكن الرؤوس بقيت مرفوعة بإرث عماني خالد، تعبر عن جزء يسير منه القصص الثلاث أعلاه، وتجسد عمان: الحُلم والتسامح والبناء والتعايش والوسطية. هكذا ترك السلطان قابوس عمان العزيزة، لكنها لن تترك مجده وإرثه، وأعتقد جازماً بأن عمان ستبقى وفية لمسيرته، وسائرة على دربه لزمن طويل جدًّا.
نقلاً عن "إندبندنت عربية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة