الآلة الحاكمة في إيران تستغل حتى الموت في دعم سياستها وعقيدتها ومذهبها، فهي لم تعد قاسم سليماني قائداً عسكرياً بل نفخت فيه روح الدين.
كشف لنا تشييع جنازة قاسم سليماني إلى أي مدى إيران غارقة في خرافاتها وغيبياتها وأوهامها التي تتنافى مع منطق العصر الحديث الذي تعيشه البشرية المتنوّرة: آلاف المشيّعين، نساء يرمين بأوشحتهن ورجال يرمون أثوابهم على جنازته من أجل التبرّك، وخمسون شخصاً يختنقون موتاً ليمدوا أياديهم ويلمسون الجنازة، ورسومات من موقع خامنئي الرسمي تجسّدُ احتضان الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، لقاسم سليماني، مستقلاً إياه في الجنّة، والكل يهتف بوصوله إلى منزلة رفيعة في السماء، وباعة يبيعون ترابه في الصواني، وغيرها من البدع الضالة التي تتنافى مع مبادئ الإسلام الحنيف.
لا يفوت الآلة الحاكمة في إيران أن تستغل حتى الموت في دعم سياستها وعقيدتها ومذهبها، فهي لم تعد قاسم سليماني قائداً عسكرياً، بل نفخت فيه روح الدين والقداسة والعقيدة والمذهب من أجل تسويقه على أنه "الشهيد" الذي يذهب إلى الجنّة، تماماً كما استخدم الخميني مفاتيح الجنة التي حملها جنوده في الحرب العراقية الإيرانية، وهم يتدافعون إلى الموت.
تحرص إيران على بقاء المجتمع العراقي يدور في حلقة خرافاتها وغيبياتها وأوهامها؛ لأن الخروج منها يعني انقلاب معادلاتها رأساً على عقب.
إن صناعة الشهيد عمل خيميائي، مزيج من الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر والسحر، يقوم به قادة الشيعة في كواليس مطابخهم الفكرية وأكبر دليل على ذلك ما ذهب إليه حسن نصر الله إلى درجة ربط مقتل سليماني برموز الشيعة المترسبة في العقل الجمعي، قائلاً: "لقد قُطع رأس قاسم سليماني كما حدث مع الحسين، وقُطعت يداه كما حدث للعباس، أما تناثر أشلاء جسده، فهي تُذكر بعلي الأكبر ابن الحسين".
وما الربط بين هذا وهؤلاء سوى الترويج لأيديولجيتها وتخدير الناس، وإبعادهم عن التفكير بمشاكلهم الجوهرية في العمل والإبداع والعيش الرغيد والمستقبل، من المعروف أن هذا المزيج من أئمة الشيعة ورموزها له وقع في نفوس الناس، في محاولة لإبعاد جرائم سليماني في ذبح أبناء العراق وسوريا على أساس مذهبي وطائفي ليس إلا، ولكي تبقي على صورته "المقدسة" عبر كثير من البدع والخرافات التي استثمرتها إيران في مشروعها السياسي الذي قبضت فيه على أنفاس المجتمع الإيراني الذي كان إلى الأمس القريب متنوراً وعلمانياً ومتفتحاً على الثقافات الأخرى.
من ناحية أخرى، تعمل الآلة الحاكمة على تحويل المزارات والأضرحة الشيعية إلى تجارة رابحة من خلال إغراق المجتمع الإيراني وكذلك العراقي في عالم الأوهام والخرافات والغيبيات. ولا تكتفي بذلك في مجتمعاتها بل وتصدّره إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان وغيرها، حيث تنشط أذرعها المليشياوية الخبيثة، وتعمل على تغذية تلك المليشيات من قوت الشعب الإيراني، وهو في أوج أزمته، فلا تريد إيران ولا آلتها الحاكمة أن يتنوّر الشباب في هذه البلدان بالعلوم والتكنولوجيا والعلمانية والنهضة. فهذه الأيديولوجيا تترعرع بين آلاف الشباب بلا تعليم، وبلا ثقافة، وبلا مستقبل؛ لأنها استلبت قواهم العقلية، وصنعت منهم دمى وآلات وجنودا وانتحاريين وإرهابيين.
لعلنا نتساءل بكل شفافية: ما الذي قدمته إيران إلى البلدان التي كان قاسم سليماني يتحكم بها: هل حاولت أن تبني جامعةً أو مركزاً علمياً أو معهداً تكنولوجياً أو مكاناً ترفيهياً سوى الأضرحة ومزيداً من القبور والحسينيات، وبناء في قلاع المليشيات ومخازن الأسلحة. أما طموحها النووي فهو غير نابعٍ من إيمانها بالعلم والتكنولوجيا بل من أجل فرض هيمنتها وسياستها ومذهبيتها وعقائدها المريضة؛ لذلك تحرص على بناء نحو ثلاثمئة ضريح في مناطق مختلفة من إيران كل عام حسب الإحصائيات، وتجني منها أموالاً طائلة من البسطاء لا تدخل ضمن الميزانية العامة بل تذهب إلى جيوب الملالي ومسؤولي المليشيات من أجل نشر أدعيتهم وحرزهم وأوهامهم بين أوساط الجهلة.
وكذلك بناء هذه الأضرحة وتشجيعها في كل من العراق وسوريا، بالاستناد إلى الخرافات والغيبيات عبر أوهام "المهدي المنتظر" و"الإمام الغائب" و"المرشد الأعلى" و"ولي الفقيه المعصوم"، و"جنود صاحب الزمان المجهولين" و"روح خميني" وغيرها من الغيبيات، إضافة عسكرة المجتمعات الجاهلة بمليشياتها الطائفية لإسكات أي صوتٍ تنويري يرى النور في الجامعات والمعاهد والمدارس؛ لهذا كان قاسم سليماني يخطط لإفشال ثورة تشرين للشباب العراقي المنتفض، وقتل أي صوت عروبي ووطني يظهر ووصل ضحاياه إلى أكثر من 669 شاب عراقي وأكثر من 1500 ضحية من المتظاهرين في إيران.
إن منظر الشباب العراقي الثائر ضد هيمنتهم وأوهامهم وغيبياتهم جعل من إيران ثوراً هائجاً؛ لأنها أدركت أن الشباب الإيراني والعراقي وعى لعبة الخديعة، وثار ضدها، ومعظمهم من المحافظات الجنوبية التي من المفترض أن تدعم السياسة الإيرانية من الناحية المذهبية، لكن السحر انقلب ضد الساحر، وانكشفت خططهم في تجهيل الناس وإغراقهم في لاهوتيات الولي الفقيه؛ لذا، ومن أجل أن تخرج من عنق الحصار الأمريكي، تحرص إيران على بقاء المجتمع العراقي يدور في حلقة خرافاتها وغيبياتها وأوهامها؛ لأن الخروج منها، يعني انقلاب معادلاتها رأساً على عقب.
وفي العودة إلى تشييع جنازة قاسم سليماني، بكل الخرافات والغيبيات والأوهام، فلم يكن أمامها سوى إضفاء القداسة المزيفة عليه، والاستمرار في عملية التجهيل والاستخفاف بعقول الناس عبر رموز وهمية، تعمل على تصنيعها حسب الظروف، ويصل بها الاستخفاف بعقول الناس إلى تحويل إرهابي قاتل متوّحش إلى ملاك طيب وبريء؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة