نعرف أن قطر ستلجأ كعادتها إلى الصمت أو الإنكار، وستنفي عقد مثل هذا اللقاء، لكن ما لا يعرفه صانعو السياسة القطرية أنه لا أسرار في عالم اليوم
من بين كل الشخصيات الإيرانية، التقى محمد عبد الرحمن آل ثاني، وزير الخارجية القطري، خلال زيارته الأخيرة للعراق، الجنرال الإيراني الموتور، قاسم سليماني والملقب بـ"السفاح"، والذي يفخر بدوره في إسالة دماء عربية بريئة، ولا يخفي نزعته الانتقامية ودوافعه الطائفية وحقده وكراهيته لدول الخليج العربية وللعرب قاطبة وللمسلمين السنة في كل مكان، ولا يتردد في المباهاة بأدواره في تنفيذ أنشطة إرهابية في دول عربية شتى.
نعرف أن قطر ستلجأ كعادتها إلى الصمت أو الإنكار، وستنفي عقد مثل هذا اللقاء، لكن ما لا يعرفه صانعو السياسة القطرية أنه لا أسرار في عالم اليوم، وأن السمعة السيئة التي رافقت سياسة قطر خلال عقدين من الزمان لن تجعل لصمتها أو لإنكارها قيمة، فلقاء وزير الخارجية القطري بسليماني ليس إلا امتداداً للنفاق القطري المتواصل الذي يتمثل في محاولة إقامة علاقات مع الأطراف المتناقضة، ظناً من المسؤولين القطريين أن هذه الازدواجية مصدر قوة، وأنهم يخلقون توازنات تحفظ لهم أمنهم، أو أن دور الوسيط الذي تحاول قطر أداءه أحياناً يمنحها ثقلاً ومكانة تلهث وراءهما، غافلة عن أن لبناء المكانة طرقاً أخرى أيسر وأقوم.
نماذج هذا النفاق القطري كثيرة، ويمكن مثلاً أن نتوقف لدى العلاقات التي تجمع الدوحة بطرفين متناقضين تماماً، وهما حركة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، وقد نُشرت أنباء كثيرة على امتداد السنوات الماضية عن إمكانية عقد مفاوضات بينهما في مدينة الدوحة، أو برعاية قطرية. ومن الأسئلة المشروعة هنا: أي علاقة يمكن أن تنشأ بين دولة مسؤولة وحركة إرهابية؟ كيف لدولة طبيعية أن تحاور إرهابيين لم يكن ظهورهم إلا وبالاً على أفغانستان وعلى الإسلام والمسلمين قبل كل طرف آخر؟ وما طبيعة المساعدات التي تلقتها طالبان من قطر لتنشأ بينهما علاقة؟ وما حجم الجرائم التي ارتكبتها طالبان داخل أفغانستان وخارجها مستخدمة مساعدات قطر أو "رشاواها" على الأصح؟
نعرف أن قطر ستلجأ كعادتها إلى الصمت أو الإنكار، وستنفي عقد مثل هذا اللقاء، لكن ما لا يعرفه صانعو السياسة القطرية أنه لا أسرار في عالم اليوم
يمكن أن نتوقف كذلك عند العلاقة التي تجمع قطر بنقيضين آخرين: إسرائيل وحركة حماس، فكيف يمكن للدولة التي ترعى حركة لا تعترف بوجود إسرائيل من الأصل، أن تكون أول بلد خليجي يقيم علاقات مع إسرائيل، ويتبادل الزيارات والصور على أعلى مستوى مع قادته ومسؤوليه؟ وربما يمكن هنا أن نتوقف أمام نفاق حماس أيضاً، ودفاعها المحموم هي وكل عصابات الإخوان المسلمين المنتشرة في العالم العربي عن قطر، برغم الجعجعات عن عدائها لإسرائيل واستخدامها هذا العداء الصوتي الفارغ ذريعة لخداع الغافلين عن حقيقة سعيها وأهدافها.
العقلية ذاتها هي التي تُبدي في الظاهر الود والإخاء للمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية، لكنها من وراء الستار تتودد إلى أشرس أعداء الخليج، وتلتقي من بينهم الأوضح في عداوته، والأفدح في إجرامه. ولذا فإن لقاء محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بقاسمي سليماني لم يفاجئنا كثيراً، فما نعرفه عن عبث أشقائنا أكبر من ذلك بكثير، وما ظنهم أنهم يفعلون ما يفعلون تحت جنح السرية ببعيد عن ظن الطفل الذي يضع كفيه على عينيه متخيلاً أن الآخرين لا يرون ما يصنع.
ما حجم الجرائم التي ارتكبتها طالبان داخل أفغانستان وخارجها مستخدمة مساعدات قطر أو "رشاواها" على الأصح؟
يظن أشقاؤنا في قطر أن تلوّنهم حكمة، وتصوِّر لهم أوهامهم أنهم يضيفون إلى أوراق القوة لديهم أوراقاً إضافية، غافلين عن أن كل المقامرين، حتى لو حالفهم الحظ في البداية مرات، ستأتيهم حتماً اللحظة التي يخسرون فيها كل شيء.
إيران لن تكون "حصنا" لقطر لو أن ساستها يعقلون، ومن يعرض نفسه عليهم فإنهم بعقلية التاجر الجشع يشترونه بأرخص الأثمان، ويعاملونه معاملة البضاعة الفاسدة التي يمنون عليه أن قبلوها منه، وطهران إذ تختار لهم قاسم سليماني فإنما تبعث إليهم منذ البداية برسالة احتقار، لو كان من يديرون الأمور في الشقيقة الصغيرة يحسنون فهم الرسائل.
إن مقام وزير الخارجية في دول الخليج العربية يجعله خليقاً بلقاء رؤساء الدول وقادتها، وهو ما سيجده أي متابع للقاءات وزراء خارجية دول الخليج أمراً معتاداً وطبيعياً. ولقاء وزير الخارجية القطري بضابط مُطارد مشبوه، يشير – لمن يعي – إلى أن الطريق الذي اختارته قطر يضعها في المكان الأدنى، ويُجبرها على تجرع الصَّغار، فيما يضمن لها تمسكها الصادق بانتمائها الخليجي عزتها وكرامتها والمعاملة اللائقة برموزها ومسؤوليها.
إيران لن تكون "حصنا" لقطر لو أن ساستها يعقلون، ومن يعرض نفسه عليهم فإنهم بعقلية التاجر الجشع يشترونه بأرخص الأثمان.
وضع قطر يدها في يد إيران هو مجاهرة صريحة بالعداء، بل إنه أقرب إلى إعلان حرب ضد دول الخليج العربية ومصالحها. ولن يكون إلا عدواً من يستخفي ويتسلل ليعرض وده وخدماته على الطرف الذي يدرب الإرهابيين ليقتلوا أهلنا في البحرين، ويحرضوا على قادتها ومسؤوليها.. الطرف الذي يسخر كل قواه لإضعاف المملكة العربية السعودية، ويحرض صنائعه على ممارسة الإرهاب، ويزرع ميليشيات إجرامية في اليمن ويسلحها ويدربها لتحارب السعودية.. الطرف الذي يحتل الجزر الإماراتية.. ويزرع الخلايا في الكويت لتخرب وتقتل وتثير الفتنة.. ويرسل ميليشياته الطائفية الحاقدة إلى العراق وسوريا.. ويبتز لبنان عن طريق سلاح حلفائه الذين يعلون مصلحة طهران على مصلحة بلادهم.. ويستخدم الورقة الطائفية المقيتة في الخليج كما في إفريقيا ووسط آسيا وكل مكان تطاله يداه.
آمل ألا تكون قطر قد سلكت طريق اللاعودة، وأن يكون لدى الممسكين بزمام الأمور فيها من الرشد ما يسمح لهم بمراجعة مواقفهم، شريطة ألا يكون ذلك مجرد سعي إلى الخروج من المأزق الحالي، أو مناورة جديدة من المناورات التي لن تفيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة