حضور أمير قطر القمة العربية بتونس كان كغيابه عنها، ولعل مغادرته المبكرة كانت أرحم، أرحم له ولموقف بلاده الضعيف الهش
من يزرع الشوك يطوق الشوك عنقه، ومن يشعل الحرائق تحترق أصابعه أولاً، ربما قيل مثل هذا الكلام قليلاً لدى تناول أزمة أو ورطة قطر التي تدخل عامها الثالث قريباً، لكن لا واقع مطابقاً له، كما حدث في أثناء قمة «العزم والتضامن»، التي عقدت في تونس أخيراً، وكان لقطر فيها حضورها الشاحب الذي فضّل المراقبون الغياب عليه، فالغياب في هذه الحالة أحفظ لماء الوجه.
الملاحظة الأهم، إذاً، ونحن نستخلص النتائج والعبر، ليست في أسباب المغادرة المبكرة لأمير قطر من «قمة العزم والتضامن» في تونس، ولكن في تداعيات السياسة الخاطئة التي همشت الدور وقلصته، ومع تضعضع الموقع بات الحضور كالغياب، وتبين أن الأزمة جعلت عزلة قطر قاتلة
لقد ساد الجدل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي حول المغادرة المفاجئة لأمير قطر القمة العربية الأخيرة في تونس، وتقدم ذلك رأي يقول إن سبب المغادرة أو الهروب لا فرق، احتجاجات الأمير تميم على الانتقادات التي سمعها من الأمين العام للجامعة العربية حول التدخلين الإيراني والتركي في الشأن العربي، وفي مبادرة واعية وملهمة ومفهومة، أعلنت الرئاسة التونسية بعد ذلك أن المغادرة لم تكن مفاجئة وإنما كانت «مبرمجة»، وأياً كان فإن المشهد لدى عشرات ملايين المشاهدين، خصوصاً لدى حضور القمة وشهود أحداثها وكواليسها كان خالياً من أية مظاهر البروتوكول والاحترام المتصلة، أو هكذا يفترض، بالصفة الأميرية، وبدا الأمير مرتبكاً كما بدا ذهنه مشتتاً، أول مظاهر ذلك، كما شهد الحضور، ما حدث لدى استقبال الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي القادة، حيث مضى تميم مسرعاً ليتذكر لاحقاً اللباقة البروتوكولية، كما اتضح من الشاشة العملاقة في المؤتمر، كما بدا واضحاً على ملامح الأمير المرتبك ممثل الدولة المرتبكة القلق لحظة أخذ الصورة الجماعية التقليدية، فبمجرد انتهاء التصوير «انسل» تميم من الباب الجانبي إلى خارج المكان، حيث يليق به وبعزلته، بينما تجمع القادة للسلام على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية الشقيقة، والذي كان، بلا شك، الحاضر الأكبر في قمة تونس، وكان المضيف التونسي حريصاً على إبداء الاحترام والتقدير الواجبين للملك سلمان.
تلك المواقف المحرجة هي وليدة السياسة التي اختارتها قطر لنفسها، فأصيبت، والكلمة مقصودة، بحالة «التوحد السياسي» في العديد من المحافل الإقليمية والعربية والدولية، وبات الوفد القطري في هذه التجمعات معزولاً ومنعزلاً، وكلما أزفت قمة أو اجتماع تكون الدوحة قد راكمت إلى رصيدها سيئ الذكر المزيد من الفضائح والسمعة السيئة، فتدخلها الأخير في الشأنين الجزائري والسوداني هو جزء من السياسة التي اعتاد عليها من يتعامل مع قطر، السياسة ذاتها التي تحذر بأنه لا أمان مع الدوحة، ولا ضمان لأمن أو استقرار، وأن أية علاقة معها هي عابرة وتحكمها المصالح الضيقة.
هذا الجانب، في التقدير السوي، هو أهم بكثير من مغادرة أمير قطر القمة بالطريقة التي غادر بها، المغادرة فقط تجلٍ لما يرشح ويلتهب تحت الجلد، وهناك عزلة قطرية حقيقية وليدة غياب الصدقية، ولم ولن يغطي هذه العزلة إعلام قناة الجزيرة أو تنظير عزمي بشارة أو صراخ المنصات الإعلامية القطرية.
يقول أحد المراقبين الحاضرين قمة تونس: إن من الواضح أن اتصالات الوفد القطري الدبلوماسية والعلنية محدودة جداً، وأن حاملي «الملف اليتيم»، ملف أزمة قطر، معزولون في هذه المنتديات، فحضور أمير قطر القمة كان كغيابه عنها، ولعل مغادرته المبكرة كانت أرحم، أرحم له ولموقف بلاده الضعيف الهش.
وعودة على بدء، فقد لوحظ، بشكل جلي، أن الصحافة القطرية أو التابعة لقطر كانت شديدة الانتقاد لكلمة أحمد أبوالغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، وتعرضه في الكلمة للتدخلات الإيرانية والتركية، الأمر الذي يؤكد أن المغادرة المفاجئة للشيخ تميم كانت مرتبطة بهذا الموضوع.
في هذا السياق، يجب تأكيد أن الاتصالات الحزبية والسوية التي تقوم عليها السياسة القطرية لا تمثل بديلا عن الدبلوماسية المنفتحة والمعلنة، والتي تخاطب الشرعيات فتعززها، والتي تبني الصداقات وتطرح المشاريع، وفي السياق نفسه، تحفظت قطر في قمة تونس على برنامج مجموعة الفضاء العربية الذي تتبناه دولة الإمارات ورحبت به تونس كما رحب العرب، فبدا ذلك التحفظ عبثياً وهامشياً أمام اجتماع القمة على أن تبني برنامج علمي عربي، لجهة البحوث الفضائية، يمثل مكسباً كبيراً وعزيزاً للعرب، ويعبر عن رؤية طالما قيدتها الأزمات وسيطرت عليها الملفات السياسية، لكنها المراهقة السياسية القطرية، وهاجس الرعب المرضي الذي ينتاب قطر، كلما ذكرت مبادرة أو مشروع إماراتي، بل كلما ذكر اسم الإمارات مجرداً ومطلقاً.
هو الفرق بين دولة تعمل على بناء المستقبل العربي الشامخ والملائم وتسعى إلى تحقيق حلم العرب، وبأيد وعقول عربية، في العلم والتنمية، ودولة كل همها اليوم تبعيتها لإيران وتركيا، بل أبعد من ذلك، لتنظيم الإخوان المسلمين وما يسمى حزب الله، ومليشيا الحوثي الإيرانية الإرهابية، فكيف تتحفظ دولة عاقلة أو ناضجة على مشروع علمي عربي بهذا الحجم، إلا إذا كان حقدها ضد الإمارات يجعلها «تأكل في نفسها» ويقض عليها مضجعها؟
الخوف من العلم وهو يأتي من أمة الجهل يكشفه تحفظ قطر على المشروع العلمي المتكامل حول مجموعة الفضاء العربية الذي قدمته الإمارات، والفرق أيضا أن دولة الإمارات حين تنجح في مجال وتقطع فيه شوطا من الابتكار والتميز تشرك فيه العرب بكل أريحية، انطلاقاً من إيمانها الراسخ بالقدرات العربية، فتضاد، بذلك، مشاريع الارتماء في أحضان تركيا وإيران وغيرهما.
الملاحظة الأهم، إذاً، ونحن نستخلص النتائج والعبر، ليست في أسباب المغادرة المبكرة لأمير قطر من «قمة العزم والتضامن» في تونس، ولكن في تداعيات السياسة الخاطئة التي همشت الدور وقلصته، ومع تضعضع الموقع بات الحضور كالغياب، وتبين أن الأزمة جعلت عزلة قطر قاتلة، و«حالة التوحد السياسي القطري» أوضح ما تكون في المؤتمرات.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة