كانت الثورة إلى وقت قريب الإجابة التي يقدّمها أصحابها عن العديد من الأسئلة الشائكة، فما قبل إسقاط النظام لن يكون كما بعده
كانت الثورة إلى وقت قريب الإجابة التي يقدّمها أصحابها عن العديد من الأسئلة الشائكة، فما قبل إسقاط النظام لن يكون كما بعده. وفق ذلك، يمكن تأجيل الأسئلة المتولدة عن إسقاطه حتى يحدث ذلك، بخلاف قوى دولية وازنة تريد الحصول على إجابات قبل استحقاق السؤال. أي أن الثورة إجابة عن الأسئلة التي يطرحها نظام ألغى جميع الإجابات الأخرى، وعندما يكتسب الحدث مرتبة الضرورة القصوى سيكون من التعسّف وضعه في مرتبة السؤال والمساءلة.
الإجابة التي تمثلها الثورة كانت ممنوعة بمصالح متقاطعة أو متشابكة. اليوم، إذ يبدو الطريق ممهداً أكثر من أي وقت مضى أمام فرض تسوية، تبدو الأخيرة هادفة في الدرجة الأولى إلى منع الإجابة الأصل بإسقاط النظام. وإذا كانت أية تسوية لن تنجح في إعادة النظام إلى ما كان عليه فذلك لا يعني تلقائياً مكسباً للثورة، أقله على المدى القريب، مع وجاهة الانفتاح على احتمالات مستجدة تطوي صفحة سورية وثورتها معاً.
لقد كشفت الثورة وفضحت منظومة متكاملة من الادعاءات التي يقوم عليها النظام وحلفاؤه، تلك الادعاءات التي كانت من قبل تملك تماسك الخطاب. لكن، خلال مسيرتها المتشعبة، لا يجوز عدم الانتباه إلى الأسئلة التي باتت تحيط بالثورة من كل صوب، وهي أسئلة تنبع من مسارها حتى إذا تسببت بها قوى كبرى أعاقت المسار المتوقع. موسم الأسئلة السوري يعني انقضاء مرحلة، وإن لم يعنِ استهلال أخرى بسبب تراكم عوامل الخيبة والخذلان والحيرة، ولعل الحيرة تتأرجح بين البحث عن إجابة مريحة جديدة والعثور على الأسئلة المناسبة.
لم تنجح الثورة، بطوريها السلمي والمسلح، في كسر الانقسام المجتمعي، مثلما لم تنجح في الانتصار. هذا تساؤل لا يجيب عنه فقط التواطؤ الدولي مع نظام الأسد وتصوره كمعطى لا يتغير، ولا يجيب عنه أيضاً ذلك الابتذال الذي يختزل الإجابة بأن الثورة لم تنجح في طمأنة الأقليات. التساؤل سيبقى في مثابة تحدٍّ، طالما لم تُطرح قضايا السلطة وإعادة توزيعها على بساط البحث التفصيلي، وطالما لم تُطرح الأسئلة القانونية المتعلقة بحقوق الأفراد وحقوق الجماعات بلا مداورة.
القول بأن التحول الديموقراطي سيتكفل بحل جميع هذه الإشكاليات تعوزه الدقة والمصداقية معاً، ففي بلد مجاور مثل تركيا تُرى عثرات الديموقراطية، على عراقتها النسبية، وتُرى إمكانية تحجيم الديموقراطية عموماً، أو تهميش الغالبية مكوّناً مثل الأكراد. هذا يطرح أسئلة ثقافية وحقوقية على العقد الاجتماعي السوري، إذا قُيّض له رؤية النور يوماً، ولم يتبخر على الطريقتين العراقية واللبنانية لمصلحة دورات احتراب من أجل إعادة اقتسام السلطة.
على صــعيد متصل، كان يُنظر إلى سورية حتى سنوات قريبة بأنها بعيدة من الاحتراب الأهلي، بسبب وجود أكثرية سنية صريحة، من دون الانتباه إلى مفاتيح القوة التي يحتكرها النظام وحده. الآن، يمكن القول بأن الأكثرية الصريحة لم تعد كذلك، بفعل عمليات التطهير الديموغرافي من المرجح أن تكون نسبتها قد انخفضت إلى ما دون نصــف السكان، لذا عبّر بشار الأســـــد في حوارين متتاليين عن ارتياحه إلى النســيج الاجتماعي الجديد. لكن بعيداً من مبدأ الترجيــحات العددية الطائفية والتظلم منــها، لم تُطرح بعد الأسئلة الملائمة لثورة صارت كتلتها الأساسية في المنافي، بينما يُحمّل مَن بقي في الداخل المسؤولية الأكبر في استمرارها.
تالياً، بما أن الغرب تحمل وسيتحمل مستقبلاً قسطاً معتبراً من مسؤولية استيعاب المهجّرين، لم تنل العلاقة بالغرب الأوروبي اهتماماً كافياً، وبقي تناوله أسير شعارات تتعلق بتقصيره. لم تُطرح الأسئلة عن الأسباب التي تحدو بالغرب الأوروبي (إذا كان يستطيع حقاً) إلى دعم ثورة يتحالف بعضها مع أصولية يقع العداء للغرب من دون تمييز في جوهر تكوينها. لقد أُضعف موقف الغرب الأوروبي، فوق تهميشه أميركياً وروسياً، نتيجة تحالفات فصائل المعارضة المنسوبة إلى الجيش الحر، والأهم من ذلك مستقبلاً تلك الأسئلة التي يطرحها وجود سوري كثيف في الشتات الأوروبي على طبيعة العلاقة بين الطرفين، بدايةً من طبيعة التعامل الثقافي مع الغرب.
أما تحالفات الحرب مع فصائل إسلامية، فلا بد أنها تطرح أسئلة لا يفرضها الخارج وحده، وإذا لم يكن مقبولاً النظر إلى التجربة الإسلامية بمنطق الإقصاء، فواحد من الشروط الواقعية ألاّ ينظر الإسلاميون بالمنطق ذاته. تجربة الحرب كشفت ذلك النزوع الإسلامي إلى الغلبة، أحياناً تحت أقسى الظروف التي تفرضها المعركة على أبناء خندقين متجاورين. فتحت القصف الروسي بادرت فصائل إسلامية إلى مهاجمة فصائل ترفع علم الثورة، وقبل أن يتّبعها النظام لجأت فصائل إسلامية إلى سياسة قضم «المناطق المحررة»، فضلاً عما يُثار عن محاولات الهيمنة على المستوى السياسي. بهذا المعنى، لم يعد التعاطي مع مسألة الإسلاميين مرحّلاً إلى ما بعد سقوط النظام، صار في صلب الأجوبة المطلوبة من الثورة نفسها ولنفسها. لم تعد الإجابة الاعتباطية التي تجمع كل من يريد إسقاط النظام شافية، بلا اتفاق الحد الأدنى على ما يعنيه الشعار، ما يطرح أسئلة عن القوة أو مجموع القوى المطلوبَيْن لدفع الإسلاميين إلى اعتدال جذري لا لفظي.
قد يُقال بأنه ليس من شأن الثورة تقديم تصورات شاملة من هذا القبيل، ويكفي قيامها بفعل الهدم كي تمهد الطريق أمام الجديد. هذا يصح أكثر على الثورات التي تُسقط الأنظمة على نحو خاطف، من دون أن تتعرض لامتحان الخوض في البديل، وربما يصح على ثورات يكون فيها الانقسام المجتمعي على أسس مختلفة. في الثورة السورية، اتسع الوقت للحديث عن الجيش الحر كجيش وطني بديل، واتسع أيضاً لتشكيل حكومة موقتة في المنفى، وصولاً إلى الدخول في مفاوضات دولية حول ماهية البديل وما الذي سيبقى من النظام في البديل المقبول. ذلك يضعها في موقع طرح عدد ضخم من الأسئلة قد يفوق الإجابات المتاحة والسهلة. ومع أن هذا الامتحان بدا خارجياً فحسب، أو ربما اشتراطاً تعجيزياً من البعض، فإن عدد الضحايا الضخم أيضاً يستحق ثمناً أعلى من مجرد تنحّي عصابة من القتلة عن الحكم. ربما، في حالتنا، صارت المعرفة واجباً أخلاقياً أيضاً!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة