قراءة أولية في نتائج الانتخابات المحلية التركية
فوز المعارضة بالبلديات الكبرى منحها مساحة أكبر لمواجهة ما يهدد الديمقراطية وتقوية جبهة الممانعة ضد محاولات أردوغان بناء نظام سلطوي
نجح تحالف الأمة الذي يضم حزبي الشعب الجمهوري والخير، في الفوز بمقاعد البلديات الكبيرة، في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس/آذار 2019، وهي أول انتخابات تتم في ظل النظام الرئاسي الجديد الذي تم إقراره في استفتاء أبريل 2017.
ووفقاً للنتائج، حصل تحالف الأمة على 45,8% من مجموع الأصوات، حاسماً رئاسة البلديات المهمة في الصدارة منها أنقرة وأزمير وآضنة وإسطنبول، إضافة إلى حصول حزب الشعوب الديمقراطي على نحو 4,2%.
ورغم أن تحالف الشعب المكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية حصل على نحو 51% من الأصوات، إلا أنه بالنظر إلى نتائج حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية المنضويين تحت التحالف بصورة منفصلة، نجد تراجعاً كبيراً في شعبية حزب العدالة والتنمية بنسبة تصل إلى 7% عن آخر انتخابات محلية أجريت في أغسطس/آب 2014 .
وكانت الانتخابات المحلية في تركيا جولة مصيرية بالنسبة لعدد كبير من الأحزاب والقوى السياسية، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان يعتبرها استفتاء على شعبيته كونها الانتخابات الأولي التي تأتي في ظل النظام الرئاسي، بينما اعتبرتها المعارضة معركة استعادة روح تركيا التي انحرفت عن قيم الأناضول ومبادئ أتاتورك. كما أثارت هذه الانتخابات عدة قضايا مثيرة للجدل، مثل: الحفاظ على هوية الدولة التركية، وعلاقة الحكومة التركية بالأكراد، ومدى إمكانية استمرار حالة الاحتقان السياسي في الداخل.
لذلك جاءت هذه الانتخابات حامية، ولم تشهد تركيا مثلها منذ سنوات عديدة، على الرغم من أن الظروف الميدانية للحملة الانتخابية كانت إلى حد كبير لمصلحة حزب العدالة والتنمية الذي حظي بتغطية إعلامية "ساحقة".
بصورة عامة، تحمل نتائج الانتخابات المحلية رقم 19 منذ إعلان الجمهورية التركية في عام 1923 العديد من الدلالات والتداعيات على مستقبل المشهد السياسي في تركيا التي تعاني من استقطاب اجتماعي وسياسي غير مسبوق، كرسته السياسات الأحادية للرئيس أردوغان وسعيه لتفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحاته السياسية.
نتائج الانتخابات
تنقسم تركيا إلى 81 مقاطعة، وبالتالي إلى 81 بلدية، بينها 30 مدينة تُوسم بالمتروبول، أي المدينة الكبيرة. ويصل عدد من يحق لهم التصويت بحسب اللجنة العليا للانتخابات 57 مليوناً و78 ألفاً و461 ناخباً، فيما يبلغ عدد الصناديق الانتخابية في عموم البلاد 194 ألفاً و715 صندوقاً انتخابياً.
وتنافس في الانتخابات 12 حزباً، هي: "العدالة والتنمية"، و"الشعب الجمهوري"، و"الحركة القومية"، و"الشعوب الديمقراطي"، والحزب "الجيد"، إضافة إلى أحزاب: "السعادة"، و"تركيا المستقلة"، و"الاتحاد الكبير"، و"الديمقراطي"، و"اليسار الديمقراطي"، و"الشيوعي التركي"، و"الوطن".
وبلغت نسب المشاركة الانتخابية نحو 83,99% مقارنة بنسبة مشاركة بلغت 51,79% في محليات 2014. وبعد فرز 98% من صناديق الاقتراع، وبالرغم من عدم توفر إعلان رسمي نهائي بعد، جاءت النتائج كالتالي:
استحوذ تحالف الأمة الذي يضم حزبي الشعب الجمهوري (علماني – يساري) والخير (قومي – يميني منشق عن حزب الحركة القومية) والسعادة (إسلامي – محافظ) على أغلبية البلديات الكبري، خاصة أنقرة وأزمير إضافة إلى أسطنبول بعد إعلان رئيس اللجنة العليا للانتخابات سعدي غوفن في الأول من أبريل/نيسان، أن عمليات فرز الأصوات تشير إلى تقدم مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض في إسطنبول، على مرشح حزب الرئيس رجب طيب أردوغان، العدالة والتنمية.
في حين فاز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بنسبة 4,2% من مجموع الأصوات، ليتراجع تمثيله مقارنة بانتخابات 2014 التي فاز فيها حزب "السلم والديمقراطية" الجناح السياسي للأكراد آنذاك بـ6% من الأصوات.
في المقابل تعرض تحالف الشعب الذي يضم العدالة والتنمية الحاكم (محافظ) والحركة القومية (قومي - يميني) لانتكاسة غير مسبوقة منذ توليه السلطة قبل 16 عاماً، شكلت نتائج الانتخابات البلدية التركية صدمة، ومفاجأة فاقت التوقعات أردوغان، وحزب العدالة والتنمية؛ حيث خسر غالبية المدن الكبرى، بما في ذلك أنقرة وآضنة وبورصة وأنطاليا وديار بكر وغيرها، بينما تشير النتائج الرسمية شبه النهائية لخسارته إسطنبول التي تمثل القلب الاقتصادي والديموغرافي للبلاد، وذلك في مقابل فوز الحزب الحاكم في القرى التي لا مكان لها على الخارطة الجيوسياسية في تركيا، كما أن مدناً أخرى ذهبت للحليف حزب الحركة القومية، مما يعني أن العدالة والتنمية خسرها أيضاً.
منحت الانتخابات المحلية تحالف الأمة ثقة جماهيرية كبيرة، فبالإضافة إلى محافظته على معاقله الأساسية في أزمير وآضنة، أستعاد حزب الشعب الجمهوري نفوذه في أنطاليا وبورصة وأنقرة واسطنبول وبلديات ساحل المتوسط وإيجة، بعد أن كانت تحت سيطرة حزب العدالة والتنمية، الذي طالما سخر مقدرات الدولة وإمكاناتها من أجل الاحتفاظ بموقعه في هذه المدن التي تمثل شرايين رئيسية في البلاد.
ويمكن القول إن حزب العدالة والتنمية سقط نهائياً من خارطة البلديات التركية الكبرى. وكان مدهشاً أن يخسر العدالة والتنمية إسطنبول التي يعتبرها مقر دولة الخلافة، التي سعى طوال الأعوام التي خلت إلى تطويرها على حساب باقي البلديات التركية. وبالرغم من رواج توقعات بأن تذهب أغلبية أصوات بلديات محافظة للعدالة والتنمية، فقد حقق حزب الخير والشعب الجمهوري فوزاً مريحاً في بعض المدينة الأناضولية المحافظة.
دلالات المحليات
حملت الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا في 31 مارس/آذار 2019 عدة دلالات:
1-تراجع شعبية الرئيس التركي، وتحالف الشعب الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، انعكست في خسارته البلديات الكبرى مقابل الفوز بأغلبية مقاعد البلديات الصغيرة، وذلك رغم تسخير أجهزة الدولة وتخصيص البث الإعلامي الذي تسيطر عليه الحكومة لمصلحة مرشحي العدالة والتنمية، ناهيك عن مشاركة أردوغان في المؤتمرات الدعائية للحزب.
ويرجع ذلك إلى ضغوطات الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا منذ أغسطس/آب 2018، فقد وصل معدل التضخم إلى نحو 20%، إضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى ما يقرب من 13، وخسارة الليرة لأكثر من 30% من قيمتها بفعل فشل السياسات النقدية، وإصرار الرئيس أردوغان على التدخل في سياسات البنك المركزي، وتخفيض سعر الفائدة.
على صعيد ذي شأن تراجع موقع حزب العدالة والتنمية بنسبة كبيرة، فقد حصل في الانتخابات المحلية السابقة على نحو 44% من الأصوات بمفرده، بينما بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها في محليات 2019 بعد ضم أصوات حزبي الحركة القومية والاتحاد الكبير على 51%.
2- فشل مسعى أردوغان في إعادة هندسة المجتمع التركي: خسارة حزب العدالة والتنمية للبلديات الكبيرة والساحلية، ستكون لها تأثير كبير على مسألة الهوية التركية، خاصة أن الرئيس التركي كان يراهن على تحقيق انتصار تاريخي في المحليات التركية يضمن من خلالها إعادة هندسة كامل الحياة العامة في تركيا.
لكن سيطرة أحزاب المعارضة على بعض البلديات التركية، خاصة الكبيرة منها بات يمثل تحدياً ضاغطاً على توجهات الرئيس أردوغان. فالسيطرة على المحليات بجوار صلاحيات النظام الرئاسي المطلق يمنح العدالة والتنمية، كان سيمثل فرصة ممتازة لإعادة هندسة المجتمع التركي بما يتوافق مع قناعاته الأيديولوجية، خاصة أن باقى مؤسسات الدولة التي كانت تحافظ على ثبات المبادئ العليا للدولة باتت مضغة لينة في فم السلطة، وفي الصدارة منها الجيش، والبرلمان الذي فقد جانباً معتبراً من اختصاصاته، وكذلك المؤسسة القضائية.
3-تقدم شعبية حزب الشعب الجمهوري بنحو 12%؛ حيث حصل في الانتخابات المحلية السابقة على 25,59% من الأصوات، في حين بلغت نسبته في انتخابات 2019 نحو 37% من الأصوات، إضافة إلى استرداده نفوذه المعهود في البلديات الساحلية بجوار المدن الكبرى، خاصة أنقرة وآضنة وبورصة.
والأرجح أن حزب الشعب الجمهوري نجح مع حليف حزب "الخير" وشركائه غير الرسميين "السعادة" و"الشعوب الديمقراطي" في القفز على التنافر الأيديولوجي فيما بينها، وبناء خطاب سياسي يعتمد المصالح التركية العليا ولا يغفل قضايا المواطن، وهو ما حافظ على مصداقية التحالف لدى عدد من الناخبين الأتراك.
4-استمرار خسارة حزب الحركة القومية جانب من كتلته التصويتية لمصلحة حزب الخير الذي نجح في الحصول على ما يقرب من 8% من مجموع الأصوات في الانتخابات المحلية بحسب النتائج، بينما فقد حزب الحركة القومية جانباً معتبراً من قوته التصويتية، بسبب انحيازه لسياسات أردوغان التي لم تعد تحظى بدعم الشارع التركي إضافة إلى انشقاق عدد من أعضائه مشكلين حزب الخير بقيادة "ميرال أكشينار". وهو ما دفعه للدخول في تحالف انتخابي مع حزب العدالة والتنمية خوفاً من الفشل في تحقيق نتائج طيبة في الاستحقاق المحلي 2019.
5- تراجع تمثيل حزب الشعوب الديمقراطية الكردي بفعل الضربات التي تعرض لها من قبل حكومة حزب العدالة والتنمية؛ حيث عرقلت الحكومة ترشح عدد كبير من أعضائه إضافة إلى اتخاذ جميع التدابير الإجرائية التي تمنع فوز مرشحي الحزب، وكان بارزاً هنا، مطالبة أردوغان في أكتوبر 2018 علنية بمنع وصول أي مرشح كردي للفوز في الانتخابات المحلية، وإصرار حكومة العدالة والتنمية على فرض سياسة الأمر الواقع في مواجهة الأقلية الكردية دون الاستجابة لمطالبها الملحة.
على صعيد متصل أدت ميلشيا "حراس القرى" التي تأسست في عام 1985 على يد الدولة التركية، والمعروفة باسم "قروجي"، دوراً معتبراً في الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الكثير من المدن والمناطق الكردية في الاستحقاق المحلي 2019؛ حيث كانت تُنقل معظم صناديق الاقتراع إلى أماكن سيطرتها.
6- إخفاق الأحزاب التركية الصغيرة في الانتخابات المحلية من تحقيق نتائج يعتد بها، خاصة حزب السعادة الذي فشل في خصم أي أصوات من رصيد حزب العدالة والتنمية، مستغلاً العامل الأيديولوجي المشترك، وأنه يمثل امتداداً للزعيم الروحي لحركة الإسلام السياسي في تركيا "نجم الدين أربكان". لكن يبدو أن الناخب التركي المحافظ بات يفضل النسخة الحديثة من الإسلام السياسي الممثلة في حزب العدالة والتنمية.
7—التأثير على السياسية التركية بزيادة حدة الاستقطاب: ربما تؤثر نتائج الانتخابات المحلية على الخريطة السياسية التركية بتعميق حالة الانقسام السياسي، لا سيما أن أردوغان برغم إقراره بنتائج الانتخابات وخسارة حزبه في المعاقل المهمة، إلا أنه لم يخفَ توجهاته العدائية ضد المعارضة. وقد يلجأ أردوغان إلى التضييق على البلديات الكبرى، خاصة أن ثمة قانوناً تتم تمريره مؤخراً يسمح بنقل صلاحية التحقيق مع رؤساء البلديات وفصلهم من وزارة الداخلية إلى رئاسة الجمهورية، كما صدر القرار الرئاسي رقم 17 لسنة 2018، الذي ربط جميع ميزانيات البلديات بخطة الموازنة العامة للدولة.
8- تراجع الصورة النمطية لتركيا دولياً: أكد الاستحقاق المحلي استمرار تراجع صورة تركيا في الوعي الجمعي الدولي، وكشف عن ذلك تصريحات أندرو دوسون، رئيس بعثة المراقبة على الانتخابات المحلية التركية؛ حيث تحدث عن حاجة الناس للتعبير عن آرائهم دون خوف من رد انتقامي من جانب الحكومة، وأضاف "نحن غير مقتنعين تماماً بأن تركيا تتمتع حالياً بأجواء انتخابية حرة ونزيهة، وهو أمر لازم لانتخابات ديمقراطية حقة تتماشى مع المعايير والمبادئ الأوروبية".
وتشكل شهادة بعثة المراقبة الأوروبية حجر عثرة إضافية في مسيرة لحاق تركيا بالعائلة الأوروبية، التي وبخت تركيا على سياستها القمعية ضد المعارضة، والتضييق على الحريات العامة وتوجهات الناخبين.
خلاصة القول، إنه بفوز المعارضة بالبلديات الكبرى التي تمثل قلب البلاد مقابل اكتساح حزب العدالة والتنمية للبلديات الصغيرة وجيوب المحافظات، تدخل تركيا مرحلة جديدة، قد يُعاد فيها التوازن المفقود بين السلطات، إضافة إلى منح المعارضة مساحة أكبر لمواجهة ما يهدد الديمقراطية التركية، وتقوية جبهة الممانعة ضد محاولات حزب العدالة والتنمية بناء نظام سلطوي يكرس الهيمنة على مؤسسات الدولة وعملية صنع القرار في تركيا.