رحل ابن القدس، وقال عنها ودافع عنها.. أكثر مما قاله ساسة محبطون وزعماء فصائل بائسون. رحم الله الدكتور صبحي غوشة.
عرفته كاتباً لعمود يومي في جريدة «الخليج» منذ أكثر من ثلاثة عقود، قبل أن ألتقيه في مؤتمر ثقافي في عمان، ويهديني ديوانه لأعماله الشعرية الكاملة، وبكلمات إهداء يخطها بقلمه «اعتزازاً بكل ما آخى بين الدم والحبر».
تعددت اللقاءات في أكثر من مكان، وكلما التقيته، ذكرت له أن كتاباته هي «عصيان أبدي لتقاليد الكتابة وممانعة للامتثال»، وأتخيله دوماً الشاعر الداغستاني (رسول حمزاتوف)، في روايته (داغستان بلدي).
رحل ابن القدس، وقال عنها ودافع عنها.. أكثر مما قاله ساسة محبطون وزعماء فصائل بائسون. رحم الله الدكتور صبحي غوشة.
كان خيري منصور قامة أدبية كبيرة في الشعر والنقد والصحافة، صادقاً ووفياً لقناعاته، وقد أثرت القضية الفلسطينية في شعره ونتاجه الثقافي الغزير، والتصقت الثقافة لدى خيري منصور، بالسياق الحياتي للشاعر، وبكل إبداعاته النقدية والأدبية والإعلامية.
كتاباته مليئة بالزفير المشبع بوجع القلب تجاه الحرية وفلسطين والعدالة، واعتبر أن «فلسطين هي الاسم الحركي للعدالة والحرية».
وكتب عن تجربته في القراءة، قبل تجربته في الكتابة، ورأى أن «سلطة الثقافة أخلاقية، وهي سلطة ملتزمة وليست إلزامية»، على حد قوله، لأن «السلطة الإلزامية هي سلطة السياسة»، وكان لديه اهتمام مبكر في نقد الاستشراق.
وقال عن فلسطين: إنها «من أعسر الاختبارات التي قدمها التاريخ للمثقف والناشط السياسي في العالم»، واعتبر أن «كل صمت على ما يجري فيها هو تواطؤ مع القاتل».
وله فلسفته في الحياة والموت، وكتب مرة يقول: «إذا كنا لا نستطيع أن نمد أعمارنا، فإن المتاح هو أن نعمقها».
ولمدينة دبي والإمارات وقع خاص لدى المرحوم خيري منصور، وقال إنه يرى «أن بعداً معرفياً تكتنزه هذه المدينة، باعتبار أن العمران له بعد معرفي، ووجدت أن مشروع المعرفة في الإمارات أعلى من أي برج من أبراجها».
قال مخاطباً الموت، قبل رحيله إلى دار البقاء، قبل شهور: «كم أنت أيها الموت، أميّ وقاس وعاق وناكر لجميل الحياة، فقد ذهب الذين نحبهم» وكان يقصد بذلك الشاعرين سميح القاسم ومحمود درويش.
* رحم الله خيري منصور.
شخصية أخرى، رحلت إلى دار البقاء قبل أسابيع، كرست حياتها وفكرها وعملها من أجل القدس، وولدت وترعرعت فيها، وناضلت من أجلها، وكتبت عنها، وعن تراثها وعادات أهلها الاجتماعية، وهويتها العربية الكنعانية.
حوتْ ذاكرة المرحوم الدكتور صبحي غوشة، أجزاء مهمة من تاريخ القدس، مثلما شكلت حياته مكرسة لخدمة القدس، منذ تخرجه طبيباً في الجامعة الأمريكية ببيروت في عام 1953، ونشاطه السياسي كعضو منتخب في المجلس البلدي لمدينة القدس، ومقاومته للاحتلال «الإسرائيلي» لمدينته القدس في عام 1967، واعتقاله ومحاكمته ثم طرده منها إلى الأردن. ونشاطه الثقافي المميز أثناء عمله في الكويت، وتأسيسه منتدى سماه «يوم القدس»، بالتعاون مع جمعية الخريجين الكويتية في عام 1988؛ حيث يقيم المنتدى ندوة سنوية باسم القدس، في ذكرى تحرر القدس على يد صلاح الدين الأيوبي في أكتوبر عام 1187.
عرفته قبل سنوات، حينما زرته في عيادته الطبية في عمان، ودعاني وقتها لعضوية مجلس أمناء مركز للأبحاث ينوي تأسيسه، ومخصص للدراسات المقدسية، وشاهدته وهو يستقبل ويعالج مرضاه من فقراء الأرض مجاناً، وأخذني في جولة للاطلاع على أنشطة جمعية أهلية أسسها لحماية القدس الشريف وجمعية أخرى أسسها، تسمى «جمعية نساء من أجل القدس».
ويعود له الفضل في تأسيس صرح طبي وطني آخر هو «مستشفى المقاصد الخيري» في القدس منذ عقود، والذي ما زال يعمل لخدمة أهل القدس.
يقول المرحوم الدكتور غوشة، في واحد من كتبه:
«القدس مهما جارت عليها الأزمان، مدينة أعياد متلاحقة، وشعائر دينية، ووضعت في خدمتها عبقرية الإنسان، إنها على صلة بالعالم دائماً، وهي في الوقت نفسه، تتأمل ذاتها وتعيش مأساتها كل يوم».
في كتابه المهم (الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين):
يعتبر أن وصف الحياة الاجتماعية هو الشاهد الأكبر على ملكية المكان، وعبر في كتابه عن هوية القدس، وقداستها وعمرانها وعاداتها، وأعيادها الإسلامية والمسيحية والتعايش بين أهل الأديان فيها، وأزياء أهلها، وأطعمتهم وحفلات الزواج ومتطلباته، والمناسبات الاجتماعية والتقاليد، والمظاهر الثقافية والعلمية والفنية، والعمار المقدسي وحارات القدس وأزقتها وعائلاتها ومدارسها ومكتباتها وأمثالها الشعبية وأناشيدها وأغانيها.. إلخ.
رحل ابن القدس، وقال عنها ودافع عنها.. أكثر مما قاله ساسة محبطون وزعماء فصائل بائسون.
رحم الله الدكتور صبحي غوشة.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة