حالة الإغلاق التي شهدها العالم جعلت من توفير الاحتياجات الغذائية للشعوب تحديا كبيرا للدول التي لا تحقق الاكتفاء الذاتي
منذ أن بدأ علم السياسة الأمريكي التبشير بفكرة التنمية بكل جوانبها الاقتصادية والسياسية في خمسينيات القرن الماضي؛ وكان جوهر مشروع التنمية تحقيق هدفين كبيرين من بين أهداف كثيرة. هذان الهدفان هما التصنيع والتحضر، أي زيادة التركيز على الصناعة على حساب الزراعة، وزيادة الانتقال من الريف إلى المدينة، وأصبح من أهم مؤشرات قياس التنمية تحديد نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الدخل القومي للدولة مقارنة بالقطاع الصناعي، وكذلك تحديد نسبة سكان الريف مقارنة بسكان المدن. وأصبحت زيادة الاهتمام بالصناعة على حساب الزراعة، وزيادة سكان المدن على سكان الريف دليلا على تقدم تلك الدولة في مضمار التنمية، وسيرها الحثيث للانتقال من فئة الدول المتخلفة أو غير النامية إلى فئة الدول النامية أو الحديثة.
ستتركنا جائحة كورونا مع ظواهر أهمها؛ أن فكرة الاعتماد المتبادل بين الدول ليست صالحة في كل الأحوال، وإنما هناك لحظات يستحيل فيها الاعتماد المتبادل
وقد أحدث هذا الفكر الذي سيطر على دول العالم لأكثر من سبعين سنة خللاً هيكلياً في البنى الاقتصادية والاجتماعية لمعظم دول قارات: أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. فقد حدث تحول هيكلي في الاقتصاد القومي لمعظم هذه الدول جعلها تفقد القدرة على تحقيق الاحتياجات الأساسية لشعوبها من الغذاء على سبيل المثال، مما جعل هذه الدول معتمدة اعتمادا كلياً في احتياجاتها الغذائية الضرورية على الدول التي تقع في أوروبا وأمريكا الشمالية وروسيا، وهذا الوضع أفقد العديد من الدول استقلاليتها الاقتصادية، ونال بدرجة أو بأخرى من استقلال قرارها السياسي. وقد تم تبرير هذا الوضع بنظريات الاعتماد المتبادل، والمزايا النسبية للدول، وتقول هذه النظرية: إن على كل دولة أن تتخصص في إنتاج السلعة التي تحقق فيها مزايا نسبية من حيث وفرة القوى العاملة، أو مناسبة المناخ، أو توفر الموارد الطبيعية، وتقوم بتصدير هذه السلعة لدول العالم، وتستورد السلع الأخرى التي لا تملك فيها مزايا نسبية من الدول التي تنتجها. فمثلا تتخصص غانا في إنتاج المطاط، وتستورد كل احتياجاتها الغذائية من الخارج، وتتخصص إندونيسيا في إنتاج زيت النخيل وتستورد احتياجاتها الغذائية من الخارج.
كذلك أحدث ذلك النموذج الكلاسيكي للتنمية الذي لا يزال مسيطراً على فكر نخبة العالم الثالث خللاً هيكلياً في البنية الاجتماعية لدول القارات الثلاث، فقد حدث انتقال عشوائي من الريف إلى المدن، وصار العيش في المدن غاية في حد ذاته، بغض النظر عن الملاءمة، والإمكانية، ومستوى المعيشة، وقد أدى ذلك إلى ترييف المدن في معظم إن لم يكن جميع دول العالم الثالث، حيث انتشرت أحزمة الفقر، والعشوائيات بالمدن الكبرى، وظهرت طبقات اجتماعية بائسة، تعيش في المدينة بعقلية الريف، دون أن تحقق استقرار الحياة الاجتماعية في الريف، ودون أن تصل إلى أدنى مستوى معيشة يليق بالإنسان في المدينة.
هاتان الظاهرتان: التصنيع والتحضر رسمتا خرائط التنمية في دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية لأكثر من نصف قرن من الزمان، فلم تتحقق التنمية، ولم تحافظ تلك المجتمعات على أنماط حياتها المتوارثة التي كانت تشهد درجة من الاستقرار والتماسك الاجتماعي كفيلة بمعالجة كثير من المشاكل الاجتماعية مثل المخدرات والعنف، والتطرف الديني، والإرهاب... إلخ.
ومع هذه الأزمة العالمية التي خلقها انتشار جائحة كورونا، والتي أدت إلى إغلاق دول العالم جميعا، إغلاقاً مزدوجاً: فقد تم إغلاق الحدود أمام العالم الخارجي، وتم منع الحركة بين الدول، وكذلك تم إغلاق المدن والمقاطعات والولايات داخل الدولة الواحدة بعضها عن بعض. وهنا أصبح العالم أمام ظواهر جديدة لم تكن في حسبان من وضعوا نظريات التنمية، وجعلوا التصنيع وسكنى المدن هدفين كبيرين لمشروع التنمية في مجمله.
ستتركنا جائحة كورونا مع ظواهر أهمها: أن فكرة الاعتماد المتبادل بين الدول ليست صالحة في كل الأحوال، وإنما هناك لحظات يستحيل فيها الاعتماد المتبادل داخل الدولة الواحدة بين الولايات والمقاطعات في الدول الفيدرالية، وتصبح كل مقاطعة أو ولاية كياناً مستقلا بصورة كاملة، ولعل حالة التنافس التي ظهرت بين الولايات الخمسين التي تتكون منها الجمهورية الأمريكية خير مثال على ذلك فقد تنافست هذه الولايات في الحصول على الاحتياجات الطبية الخاصة بمواجهة كورونا وكأنها دول مستقلة لا تربطها رابطة، نفس الأمر حدث في الهند فقد استقلت كل ولاية هندية من الولايات الثمانية والثلاثين بسياسة وإجراءات وموارد عن باقي الولايات.
كذلك فإن حالة الإغلاق التي شهدها العالم جعلت من توفير الاحتياجات الغذائية للشعوب تحديا كبيرا للدول التي لا تحقق الاكتفاء الذاتي في احتياجاتها الغذائية، ولو استمرت الأزمة فترة أطول ستكون هناك مشاكل أكثر خطورة في توفير الغذاء للشعوب. لقد أظهرت هذه الأزمة أن الزراعة لا تقل أهمية عن الصناعة، وأن دولا عديدة سوف تعيد النظر في استراتيجياتها الاقتصادية؛ وتركز على الإنتاج الزراعي بدرجة أكبر بما يحقق درجة من الاكتفاء الذاتي الغذائي.
وأظهرت هذه الأزمة كذلك أن سكن المدن، والانتقال من الريف ليس هو الخيار الأفضل في كل الأحوال، فالمدن في زمن الأوبئة أكثر خطورة من الريف، ولذلك من المتوقع أن يتجه العديد من السكان للانتقال إلى الضواحي الريفية القريبة من المدن والابتعاد عن المدينة بمفهومها التقليدي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة