ريم تقرأ لتنتصر.. الإمارات تُراهن على الحرف لبناء الإنسان
ريم عادل الزرعوني بطلةً تحدي القراءة العربي

في أرضٍ تؤمن أن الحضارة تبدأ من العقل، وأن طريق المستقبل يمرّ عبر الحرف، تكتب دولة الإمارات العربية المتحدة سطوراً جديدة في دفتر النهضة، وتفتح للإنسان بوابة مشرعة نحو المعرفة، حيث لا تُقاس التنمية بعدد الأبراج، بل بعدد الكتب التي تُقرأ، والأفكار التي تُثم
منذ اللحظة الأولى لتأسيسها، اختارت الإمارات أن يكون الإنسان هو المشروع الأول، والعلم هو السلاح الأصدق في وجه الجهل والتأخر. فجعلت من التعليم القاعدة التي يُبنى عليها الغد، واعتبرت أن المعرفة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية لبناء مجتمع يعي أدوات عصره، وينهض بثقة في وجه التحولات.
ومن هذا اليقين، انبثقت مبادرات تجاوزت الشكل التقليدي للتعليم، لتصبح روافد حضارية تُسهم في تشكيل وعي الأجيال. من بين تلك المبادرات، تبرز «تحدي القراءة العربي» التي انطلقت برؤية طموحة، لتغدو أكبر مشروع معرفي في اللغة العربية على مستوى العالم، حاملة معها روحاً جديدة للكتاب في زمن السرعة والرقمية.
اليوم، الثلاثاء، شهد مركز دبي التجاري العالمي احتفالية كبرى لتتويج الفائزين في الدورة التاسعة من هذا التحدي، في لحظة رمزية تتوّج عاماً كاملاً من الجهد القرائي الذي انخرط فيه أكثر من 810 آلاف طالب وطالبة من مختلف إمارات الدولة. وعلى مستوى العالم، امتد التحدي ليصل إلى 50 دولة، بمشاركة تفوق 32 مليون طالب وطالبة، يمثلون 132 ألف مدرسة، تحت إشراف أكثر من 161 ألف مشرف ومشرفة، في مشهد معرفي قلّ نظيره.
وفي حضرة الحرف، وتحت أضواء قاعة تعجّ بالشغف والمعرفة، وقفت الطالبة ريم عادل الزرعوني كأنها تُمثّل أمة من القرّاء الصغار، لترفع راية الكتاب عالياً، متوجةً بطلة لتحدي القراءة العربي على مستوى دولة الإمارات، في الحفل الذي أُقيم اليوم، الثلاثاء، في مركز دبي التجاري العالمي.
لم يكن المشهد عادياً، بل هو صورة من تلك اللحظات التي يُعاد فيها رسم معنى التفوق. ريم، وهي تخطو بثبات نحو منصة التتويج، بدت كأنها تقرأ المستقبل في صفحة بيضاء، تكتبها بمداد من المثابرة والخيال.
وفي ذات الاحتفال، تواصلت حكايات التميز، فتُوجت زهرة حمد بلقب المشرف المتميز، كشهادة على الدور التربوي الذي لا يُرى، لكنه يُثمر في الصمت. فيما أُعلن الطالب عبد الله الظنحاني بطلاً لتحدي القراءة العربي عن فئة أصحاب الهمم، ليروي لنا أن التحديات قد تُصير جسراً، حين يعبرها القلب قبل الجسد.
أما المدرسة المتميزة، فجاء اللقب من نصيب مدرسة عاتكة بنت زيد - الحلقة الأولى، الواقعة في "الشرقية" بإمارة الشارقة، حيث أثبتت أن المؤسسة التعليمية ليست فقط جدراناً وسبورات، بل بيئة حية تنبض بالقراءة، وتفتح للطفل نوافذ على العوالم.
هذا التتويج لم يأتِ من فراغ، بل جاء بعد موسم من التنافس المحموم والمعرفة المتراكمة، إذ شهدت المسابقة مشاركة قياسية بلغت 810 آلاف و838 طالباً وطالبة من مختلف أنحاء الدولة، انخرطوا في سباق الكلمة، وأعادوا للقراءة مكانتها الأولى بين اهتمامات النشء.
تحدي القراءة ليس فعلاً احتفالياً، بل مشروع مستمر، ينمو كغرسٍ في عقل كل طالب وطالبة. وها هي ريم الزرعوني، وعبد الله الظنحاني، وزهرة حمد، ومدرسة عاتكة، ليسوا مجرد فائزين، بل رموز لعالم يُبنى بالكلمة، ويُصان بالفكرة، ويُكتب بحبر لا يجف.تشمل مراسم التتويج الإعلان عن بطل التحدي على مستوى الدولة، والفائز بفئة أصحاب الهمم، إلى جانب أفضل مشرف، والمدرسة المتميزة. وفي كل فئة، تُروى حكاية اجتهاد، وتسكن تفاصيلها ملامح من الإصرار والخيال، حيث الكلمة تُكتب بالعرق والحلم.
ومن دورة إلى أخرى، يزداد هذا التحدي حضوراً وعمقاً. ففي العام الماضي، شارك من الإمارات أكثر من 700 ألف طالب وطالبة، وكان التتويج من نصيب أحمد فيصل علي من دبي، فيما فازت مدرسة الإبداع بلقب «المدرسة المتميزة»، ونال عاصم عبارة من أبوظبي لقب «المشرف المتميز»، وفاز الطالب سليمان خميس من الفجيرة بفئة أصحاب الهمم. هذه الأسماء ليست مجرد فائزين، بل عناوين لحكايات بدأها كتاب، واستكملها شغف لا ينطفئ.
لم تغفل المبادرة التحولات الرقمية، بل احتضنتها ووسّعت عبرها نطاقها. فمع كل طفرة تكنولوجية، حرص التحدي على إدماج الوسائط الحديثة، فأنشأ منصة إلكترونية تتيح للطلبة التسجيل وتتبع قراءاتهم، وتوثيق ملخصاتهم رقمياً، مانحاً العملية التعليمية مرونة تُراعي إيقاع الزمن، وتزيد من جاذبية المشاركة. ولم تكن وسائل الإعلام بعيدة عن هذه الحركة؛ بل كانت شريكاً في صياغة الوعي، عبر التغطيات والتفاعل المجتمعي في الصحف والشاشات ومواقع التواصل.
ينطلق التحدي كل عام في أيلول/سبتمبر، ويُختتم بتصفيات نهائية في تشرين الأول/أكتوبر بدبي، بعد مرور الطلبة بخمس مراحل قرائية، يقرأون خلالها خمسين كتاباً، ويلخصونها، في رحلة معرفية تُشكّل وجدانهم وتوسّع مداركهم.
لكن المشروع لا يتوقف عند حدود التعليم الرسمي. بل هو بيئة تربوية متكاملة، تغرس مهارات التفكير النقدي، وتعزز الإبداع، وتفتح أبواب الانفتاح الثقافي، وتدعو الأسر والمدارس إلى المشاركة في صياغة جيل يتقن لغته، ويُحبّها، ويجد فيها ما يعبّر عن ذاته وتاريخه وتطلعاته.
لم تعد القراءة فعل انعزال، بل صارت في الإمارات فعلاً جماعياً، يحتفى به، ويُصاغ حوله وعي جمعي. ولعل الأهم من الجوائز، أن ثمّة طالباً في زاوية ما من هذا الوطن، يفتح كتاباً وهو يشعر أن وراءه أمة تصغي.
في مشروعها الثقافي هذا، لا تسعى الإمارات إلى بناء قرّاء وحسب، بل تُعيد للغة العربية مكانتها كلسانٍ للفكر، وقناةٍ للمعرفة، وجسرٍ للتواصل. وكما تبدأ كل حضارة من كلمة، تؤمن الإمارات أن كل كتاب يُقرأ هو لبنة في جدار المستقبل، وأن كل قارئ يصعد هو رصيد حيّ في حساب الوطن.
القراءة في الإمارات ليست هواية موسمية، بل رهان وطني. وكل من يفتح كتاباً، إنما يفتح نافذة نحو أمة أكثر وعياً، وإنسان أكثر حضوراً.