تداعيات العولمة المفرطة.. عزوف يهدد الاقتصادات النامية
قال محللون إن أهم ما ميز عصر التقارب كانت العولمة المفرطة، والزيادة السريعة في الفرص التجارية التي بدأت في أواخر الثمانينيات.
قال تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" إنه مع ظهور الثورة الصناعية تباعدت معدلات النمو في الدول الغنية والفقيرة بشكل كبير، ولكن مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها انهار هذا النمط التاريخي وبدأت البلدان النامية في النمو بشكل أسرع، وفي غضون عقد آخر بدأت في اللحاق، ولو ببطء بمستويات المعيشة في الغرب الغني.
وقد شهدت بعض الاقتصادات الأكثر فقراً نجاحاً بالفعل في القرن العشرين، فقد ازدهرت كوريا الجنوبية وتايوان بداية من ستينيات القرن العشرين، تليها إندونيسيا وهونغ كونغ وسنغافورة وتايلاند، وخلال عصر التقارب الذي بدأ في عام 1990 شهد العالم انخفاضاً تاريخياً في معدلات الفقر، ليس فقط في الصين والهند، بل أيضاً في أمريكا اللاتينية، وفي منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا بدءاً من منتصف التسعينيات.
واعتبر التقرير أن أهم ما ميز هذا العصر المذهل من التقارب كانت العولمة المفرطة، والزيادة السريعة في الفرص التجارية التي بدأت في أواخر الثمانينيات، عندما أصبحت البلدان النامية أكثر تعرضا للتجارة ثم بدأت تنمو بسرعة أكبر من نظيراتها الغنية.
وعرف التقرير العولمة بأنها تقارب يحدث عندما تشهد التدفقات الدولية للسلع والخدمات ورأس المال والتكنولوجيا والأفكار زيادة سريعة، أما العولمة المفرطة فهي ببساطة تقارب مفرط.
وبدءاً من أواخر الثمانينيات أدت ثلاثة عوامل حاسمة إلى ارتفاع هائل في هذه التدفقات: الانخفاض السريع في تكلفة نقل البضائع والاتصالات عبر الحدود، وتبني الزعماء السياسيين سياسات أكثر تأييدا للعولمة، وربما الأهم من ذلك نهاية الحرب الباردة، وبدا أن هذا الحدث يعد ببيئة دولية، حيث يكون خطر الحرب والصراع الجيوسياسي أقل.
وربما كانت العولمة المفرطة هي العامل الأكثر أهمية للتقارب الذي حدث بين ثروات الدول الغنية والفقيرة بين عامي 1990 و2020.
هذا التقارب يعكس ثلاثة جوانب متميزة: نمو أسرع في البلدان الفقيرة، انخفاض التقلبات في معدلات النمو الاقتصادي في البلدان المحلية، مما يشير إلى أن الدول الفقيرة أصبحت أقل عرضة للصدمات الاقتصادية، خاصة النمو الممتاز والمطرد في البلدان المتوسطة الدخل.
في العقود الثلاثة التي سبقت سقوط سور برلين، تبنت العديد من البلدان النامية في مرحلة ما بعد الاستعمار سياسات اقتصاد كلي متهورة وشعبوية أدت إلى الأزمات وعدم الاستقرار، وبحلول نهاية الحرب الباردة كانت الأدلة على الضرر الذي خلفته هذه السياسات صارخة، وبدأت غالبية البلدان النامية في اتباع صيغة مختلفة فتحولوا نحو القطاع الخاص، والأسواق، والتجارة، وتخلوا عن سياسات الدولة الأكثر صرامة التي لم تسفر في كثير من الحالات إلا عن الركود.
كما ساعدت البيئة الخارجية، فبحلول مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبحت أسعار الفائدة المنخفضة راسخة. وهذا يعني أن البلدان النامية أصبحت قادرة على الوصول إلى التمويل الرخيص للبنية الأساسية وغير ذلك من الاستثمارات مع تصاعد شهية رأس المال العالمي للبحث عن عائدات في البلدان الفقيرة.
وأشهر هذه المعجزات هي الصين والهند -تليها فيتنام وبنغلاديش، التي شهدت معجزات النمو الاقتصادي على خلفية النمو السريع في صادراتها وتجارتها، وفي التصنيع كانت حالة الصين وشرق آسيا، وفي الخدمات كانت حالة الهند، كما استفاد مصدرو السلع الأساسية، خاصة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، الذي نتج عن النمو السريع في الصين وطلبها النهم على النفط، والنحاس، والحديد، وغير ذلك من المعادن.
بلوغ الذروة
لكن يبدو أن التقارب والعولمة المفرطة قد بلغا ذروتهما لتبدأ الأوضاع في العودة إلى مثيلاتها السابقة.
فمنذ نهاية جائحة كوفيد-19، عادت تجارة البلدان النامية إلى حيث كانت في بداية القرن الحادي والعشرين، وبدأت الاقتصادات النامية تنمو بشكل أبطأ من الاقتصادات المتقدمة ــ عائدة إلى النمط الذي كان سائداً حتى أواخر الثمانينيات.
فبعد عام 2020، توقفت العولمة المفرطة، إذ من الواضح أن نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي في البلدان النامية في انحدار. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، بدأ الفارق بين معدلات النمو في البلدان الغنية والفقيرة في التضييق. ولكن التقارب انتهى حقا بعد عام 2020، عندما بدأت معدلات النمو في البلدان الغنية تتجاوز معدلات نمو البلدان النامية مرة أخرى.
وقد خلص الاقتصاديون والسياسيون على حد سواء إلى أن العولمة المفرطة كانت مسؤولة عن اتساع فجوة التفاوت بين البلدان الغنية والفقيرة وكذلك على المستويات المحلية وخسارة وظائف التصنيع في الغرب.
فبسبب تأثيرها السلبي على تشغيل العمالة في الصناعات التحويلية في البلدان الغنية أو صعود الصين، اعتبر كبار الاقتصاديين أيضا أن العولمة المفرطة لم تكن في الواقع مفيدة بما فيه الكفاية، أو مفيدة على الإطلاق، حتى بالنسبة للبلدان النامية، فلم تساعد النمو أو تخفض الفقر في البلدان النامية.
بالإضافة الى ذلك، تدفع المخاوف الأحدث بشأن الأمن القومي وسلاسل التوريد الضعيفة الدول الغنية نحو تدابير الحماية لمكافحة صعود الصين، وخاصة هيمنتها في التكنولوجيات والمنتجات البالغة الأهمية.
في المقابل، سارع زعماء البلدان النامية ـ في استجابتهم بالمثل أو تقليد البدع السياسية في الغرب واعتماد مجموعة كبيرة من التدابير الحمائية الخاصة بهم. وبعد أن شهدوا أعظم حقبة من الازدهار الاقتصادي في تاريخ بلدانهم، تحولوا هم أيضا إلى الداخل وابتعدوا عن الأسواق. انخفض دور التجارة في البلدان النامية بعد الأزمة المالية العالمية: بعد أربعة عقود من الزيادات المطردة، في عام 2008، بدأت تجارة البلدان النامية كحصة من ناتجها المحلي الإجمالي في الانخفاض، وحتى قبل جائحة كوفيد-19، كانت قد بلغت مستوى أدنى مستوياتها التي لم نشهدها منذ التسعينيات.
وفي عهد ناريندرا مودي، عززت الهند سياسات الحماية، وتبرأت من الإجماع المحلي الذي دام ثلاثين عاما لصالح التجارة الحرة. ووفقا لبيانات من Global Trade Alert، في المتوسط، فرضت الدول النامية 101 إجراء جمركي جديد سنويا بين عامي 2014 و2023، مقارنة بـ 89 إجراءً سنويًا في الدول الغنية.
انقلاب اقتصادي
واللغز هو لماذا أدارت الدول النامية ظهرها للعولمة؟ وكان هذا انقلاباً لا مبرر له اقتصادياً: فقد تم استيراد التشكك التجاري من الولايات المتحدة، حيث ألقي اللوم على العولمة لأنها قتلت التصنيع التقليدي، ونقلت الأعمال إلى بلدان، حيث نجحت في انتشال ملايين عديدة من براثن الفقر. وأحد الأسباب المحتملة أيضا هو التقليد، فكثيراً ما يتساءل زعماء البلدان النامية: إذا كان (الدول الغنية) بوسعهم أن يفعلوا ذلك (وضع سياسات الحماية على سبيل المثال)، فلماذا لا نستطيع نحن أن نفعل ذلك؟
واعتبر محللون أن الاقتصادات المتقدمة، خلال عصر العولمة المفرطة، كانت تتمتع بحيز مالي أكبر لتمويل تدابير تحفيز الاقتصاد الكلي مما قد يبدو للعيان بسبب انخفاض أسعار الفائدة. واعتقدت البلدان النامية أنها تتمتع بنفس الفسحة، وذهب بعضها إلى عمليات اقتراض غير مستدامة. وعلى نحو مماثل، خلال هذه الفترة، كان الإجماع يتنامى بين خبراء الاقتصاد الكلي على أن الاقتراض لم يكن ضاراً كما كان يُعتقد سابقاً، شريطة أن تتمكن البلدان من القيام بذلك بعملاتها الخاصة.
ولكن بانضمامها إلى الغرب في رفض العولمة، أصبحت البلدان النامية ــ وخاصة الاقتصادات الناشئة الأكبر حجماً ــ متواطئة في عض اليد التي أطعمتها. وفي هذه الأيام، غالبًا ما يُقابل زوال العولمة المفرطة بالارتياح، بل والاحتفال.
ولكن ينبغي لكل هذه الجهات الفاعلة أن تنتبه لمخاطر التخلي عن التقارب أو العولمة، فالعالم سوف ينجو من الحرب التجارية الأمريكية الصينية، ولكن الدول سوف تصبح أكثر فقرا وأكثر تفاوتا إذا تخلت عن الهدف المتوسط الأجل المتمثل في تحقيق نظام تجاري عالمي أكثر تكاملا وهو الذي عزز الفترة الذهبية للتنمية الاقتصادية في التاريخ.
وتساءل التقرير عما إذا كانت التدابير الحمائية التي تتخذها الاقتصادات الصناعية ستساعد في مكافحة تغير المناخ أو تقليل الاعتماد على الصين أو الصراع معها؟ ولكن بالنسبة للبلدان النامية، لعبت العولمة المفرطة بلا شك دورا حاسما في نهضتها الاقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وقد يكون البديل للعولمة المفرطة -أن تصبح الاقتصادات النامية حبيسة تكتلات تجارية إقليمية وجيوسياسية، وتكافح من أجل الخروج من الاعتماد على السلع الأساسية والاستفادة من قطاعات التصنيع والخدمات الأكثر ديناميكية- قد يكون أسوأ.
ولا يستطيع أي نزاع تجاري أو تعريفة جمركية واحدة أن يحدد المستقبل الاقتصادي للاقتصادات النامية اليوم، لكن الرؤية الاستراتيجية الواسعة مهمة، ويتعين على النخب الاقتصادية والسياسية أن تقرر إذا كان العالم الأكثر تكاملاً والعولمة لا يزال هدفاً وسيطاً يستحق المتابعة أو إذا كانت فائدة العولمة قد انتهت.