مع بدايات العام الجديد، يعود إلى أذهان البشرية ما شهده العالم قبل عامين من بدء وانتشار جارف لجائحة كورونا أودى بأرواح عشرات الملايين في مختلف قارات العالم وأصاب مئات الملايين الآخرين.
وخلفت وراءها الجائحة فوق هذا كله حالة فزع غير مسبوقة خلال نحو قرن من الزمان، منذ أن اجتاحت الإنفلونزا الإسبانية العالم كله.
كذلك يمر نحو عام على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أضافت إلى المخاوف العالمية، بعد مخاوف كورونا، خصوصًا الأوروبية والأمريكية والآسيوية منها، ذكريات الحربين العالمية الأولى والثانية المريرة بضحاياهما من عشرات الملايين من القتلى ومئات الملايين من الجرحى وتدمير عشرات من كبرى عواصم ومدن القارتين الأوروبية والآسيوية.
وفضلاً عن هذا، فقد أدت الجائحة والحرب خلال هذين العامين إلى إرباك عالمي شديد على مستويات الاقتصاد والتجارة والمال والغذاء والسياسة، بما أعطى الانطباع بقرب انهيار النظام الدولي القائم منذ سنوات طويلة على كل هذه المستويات وتجمّع إشارات لبديل له اقترب قدومه.
وإذا كانت تلك هي النتائج المباشرة للجائحة والحرب على النظام الدولي على أصعدته المتنوعة، فإن سؤالا مهما بات محل البحث والدراسة في كثير من دوائر البحث، ويمثله عنوان هذا المقال.
فما هو واضح أن نتائج الجائحة والحرب الأكثر عمقا قد مست، بل وضربت، أسس النظرية التي سادت العالم لعدة عقود واصطُلح على تسميتها "العولمة"، والتي قيل إنها قد حوّلت العالم بمختلف مجتمعاته ودوله إلى "قرية واحدة"، ليس فقط لسهولة الاتصال بينها داخليا، ولكن أيضا وجوهريا بسبب التكامل المتزايد للاقتصادات حول العالم، بما في ذلك حركة المنتجات والخدمات والتكنولوجيا والمعلومات عبر الحدود.
واعتقد كثيرون أنه بعد عقود من بدء العولمة، فإنها قد استقرت وأصبحت نظاما عالميا يوحِّد العالم بما سبق ذكره، ويعيش ضمن منظومة واحدة من القيم والعادات يعود أغلبها الساحق للحضارة الغربية المهيمنة وأصل العولمة.
فقد أدت الجائحة والحرب إلى ضرب أساس العولمة الحقيقي، والذي بُنيت عليه فكرتها النظرية وجوهرها العملي، وهو التكامل وسهولة الاتصال بين مختلف اقتصادات العالم، بما يشمله هذا من حركة المنتجات والخدمات والتكنولوجيا والمعلومات عبر الحدود.
فقد أوصلت الجائحة، ليس فقط دول العالم، إلى قطع الاتصالات المباشرة لشعوبها ببعضها عبر مراحل الإغلاق المتتابعة، بل وحتى داخل الدولة نفسها بين مناطقها المختلفة، بحثا عن وقف انتشار الجائحة وإنقاذا للصحة العامة داخل الدولة الواحدة الوطنية.
وقد حملت الجائحة معها -بوقف الاتصالات المباشرة بين الدول- ما استكملته الحرب بعدها بإيقاف وتعثر سلاسل الإمدادات التجارية العالمية، ما أثر جوهريا على أساس العولمة، وهو التكامل وسهولة الاتصال بين مختلف اقتصادات العالم، بما يشمله هذا من حركة المنتجات والخدمات والتكنولوجيا والمعلومات عبر الحدود.
وهكذا أدت الجائحة والحرب خلال العامين المنصرمين إلى تدافع الدول والشعوب إلى العودة إلى ما كان البعض يعتقد أنه قد اندثر، وهو مفهوم الدولة الوطنية، وليس العولمة، بكل ما يحمله من تغليب أولويات ومصالح شعوب كل دولة على ما عداها من أسس العولمة، التي راحت تتهاوى، واحدا بعد الآخر.. فقد وضعت الجائحة والحرب مختلف دول العالم أمام أولوية واحدة يجب الحفاظ عليها لشعوبها، وهي الحق في الحياة ذاتها أمام مخاطر الجائحة، وعلى مستوى هذه الحياة، الذي هددته الحرب على أصعدة توفير الغذاء والبطالة والتضخم.
ويبدو واضحا الآن أن العالم "المتعولم" لم يعد باقيا منه سوى تجربة استمرت عدة عقود، وفكرة نظرية لا يزال هناك من يدافعون عنها، وكذلك سرعة التواصل بين سكان الكرة الأرضية، لكن الأسس المادية الواقعية لفكرة "القرية العالمية الواحدة" تبدو اليوم في تآكل متزايد، وتحل محلها بسرعة شديدة أسس أخرى مادية وواقعية محلية ووطنية تقررها وتؤسسها حكومات الدول الوطنية في مختلف بقاع ومناطق العالم، حفاظا على حياة ومصالح شعوبها الأساسية.
وبصورة متدرجة وخجولة خلال الشهور الأخيرة، راحت فكرة أخرى تحل بسرعة محل العولمة، وهي التعاون الإقليمي الذي يجمع عدة دول تجمعها منطقة واحدة، من أجل التعاون الوثيق بينها لعبور الأزمات الخطيرة المترتبة على الجائحة والحرب والمتصادمة مع فكرة العولمة التي تترنح بشدة الآن.
كل السطور السابقة هي مجرد ملاحظات قابلة لمزيد من البحث العلمي المدقق، وتظل مجرد افتراضات قابلة للإثبات أو النفي عبر هذا الطريق وحده دون غيره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة