ليس عيبًا أن يكتشف الصديق الأمريكي خطأ رؤيته بالنسبة لمنطقتنا ويعترف أن علاقته بها ليست مؤقتة، إنما هي علاقة استراتيجية ومتبادلة.
هذا بالضبط ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن للقول "سنظل شريكًا نشطًا للشرق الأوسط" خلال قمة جدة للأمن والتنمية، والتي جمعته بزعماء دول الخليج ومصر والأردن والعراق، ليؤكد أن العلاقات المتوازنة هي الحل الأمثل بالنسبة لدولة في حجم الولايات المتحدة.
إن الإدارة الأمريكية تعرف تمامًا أن خسارة حلفائها في منطقة الخليج ليس في صالحها، كما ليس من مصلحتها أن تهتز ثقة الساسة في دول المنطقة بها، وبالتالي عليها أن تصحح صورتها وتبرهن على حسن نيّاتها، بحيث تقوم بدور فاعل لإخماد نيران التناحر في كل من اليمن وسوريا وليبيا، وتبتعد عن اتخاذ مواقف في السر تتناقض مع ما يصدر عنها في العلن.
كلنا يعلم أن المصالح الضيقة، التي تبتغي الإدارة الأمريكية تحقيقها منذ عقود، لن تعيش طويلاً، لا بل إنها حين تغلق عينها عن أمن وسلام واستقرار منطقتنا فهي تسمح بزيادة رقعة التوتر.
لا شك أن المتغيرات الأخيرة دوليًّا، وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، كانت سببًا مباشرًا في مراجعة الإدارة الأمريكية استراتيجيتها التي كانت تهدف إلى التخلي عن تحالفاتها في الشرق الأوسط والتوجه نحو مناطق أخرى في العالم.
وقد بدأت أمريكا فعليًّا تنفيذ استراتيجيتها تلك من خلال أمور عدة قامت بها، من بينها انسحابها من العراق، ثم من أفغانستان، إلى جانب تخاذلها تجاه إيران، وقرارها باستبعاد مليشيات "الحوثي" من قائمة الإرهاب، وعدم اتخاذ موقف جاد بالنسبة للملف الفلسطيني.
وبسبب الاستراتيجية الأمريكية تلك بتخلّيها عن تحالفاتها في الشرق الأوسط، نشطت روسيا والصين لملء الفراغ، لكن الخوف من ذلك التمدد أجبر الولايات المتحدة على التراجع -ولو جزئيا- عن سياستها، وهي التي تعرف حق المعرفة الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية للمنطقة العربية كحلقة وصل حيوية لسلاسل الإمداد بين آسيا والغرب.
يبدو أن الإدارة الأمريكية في هذه الفترة تعيش حالة لا توازن إلى درجة أنها تفقد البوصلة أحيانًا فيما يتعلق بعلاقتها مع منطقتنا، أما على المستوى الداخلي فوضعها ليس أفضل حالاً، ذلك أن مخاوف الحزب "الديمقراطي" من الهزيمة كبيرة في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقررة في شهر نوفمبر المقبل، في ظل تزايد الضغوط بسبب ارتفاع التضخم لمستويات قياسية، وشبح عودة ترامب لموقع الرئاسة.
وبالعودة إلى "قمة جدة للأمن والتنمية"، فإن "بايدن" لم يحقق مبتغاه من حضورها لأن المعادلات السياسية في العلاقات الدولية تغيرت، وبات واضحًا أن زعماء المنطقة يجيدون إقامة علاقات ندية مع الدول الكبرى، علاقات قائمة على المصالح المشتركة.
إزاء ما يحدث اليوم في دهاليز السياسة، على الإدارة الأمريكية الاعتراف بحتمية التعامل الموضوعي مع بقية الدول ومع التطورات الراهنة للأحداث التي تشكل منعطفًا كبيرة في خارطة التحالفات، وإدراك مطالب دول المنطقة المشروعة والعادلة، وفي مقدمتها دعم أمنها واستقرارها، والحفاظ على التوازن الإقليمي، وفي هذا اختبار حقيقي لجدية الولايات المتحدة في الحفاظ على السلام العالمي، وتأمين حركة الملاحة والتجارة.
المشهد اليوم بحاجة إلى قراءة واعية في ظل أزمات تكبر، وصراعات تنتقل من قارة إلى أخرى كنا قد شهدنا بعضها مؤخرًا في كل من سيريلانكا وألبانيا والأرجنتين.
لكن إن لم يحدث ذلك، فإن ضبابية الرؤية قد تؤدي إلى كوارث كبيرة، ومن يدري أين ستكون بؤرة الصراع الجديدة، وأي دم سينزف.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة