الولايات المتحدة الأمريكية تقول إنها تريد أن تستعيد مكانة "الشريك الاستراتيجي" في المنطقة، وقد جاء وقت الاختبار لنعرف الحقيقة.
الانتهاكات الحوثية لاتفاق الهدنة، التي تكللت بقصف "حي الروضة" في تعز، سواء حركت أم لم تحرك المشاعر في واشنطن جراء سقوط عدد من الضحايا الأطفال، فإن انهيار الهدنة المرتقب، مطلع الشهر المقبل، لن يترك لواشنطن الفرصة للإفلات من مسؤولية تحديد موقف، لا يراوغ ولا يخادع ولا يماطل.
جاء الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى قمة جدة ليرأب الصدع في علاقات بلاده مع دول الخليج العربي، بعد نحو سنتين من التعثر، الذي صنعه بنفسه لنفسه.
وفي الواقع، ليست الحرب في أوكرانيا هي السبب، ولا تراجع فرص توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ولا حتى ارتفاع أسعار النفط. السبب هو أن مكانة الولايات المتحدة في المنطقة ظلت تتراجع بمسار ثابت من "شريك وحيد" إلى "شريك رئيسي" إلى "شريك بين آخرين".
هذه النتيجة، حتى وإن كانت اختيارا، واشنطن هي التي دفعت إليه، إلا أنها كانت تتوافق أيضا مع استراتيجيات دول المنطقة القائمة على توسيع علاقات التعاون مع كل القوى العظمى، وكل القوى الاقتصادية الناشئة.
التراجعات التي سجلتها الولايات المتحدة، منذ أن سلمت العراق لإيران على طبق من فضة، كانت بمثابة شاهد ذاتي على أن هذه القوة العظمى تتخبّط، بما يضر مصالحها هي نفسها قبل أن تضر بمصالح "شركائها" الآخرين.
تسليم العراق لإيران، تبعته سلسلة "تسليمات" أخرى، لم تتوقف عند التفاوض سرّا على الاتفاق النووي في عام 2015، ولا التغاضي عن جرائم وانتهاكات المليشيات التابعة لإيران في العراق، بل مساعدتها أيضا، قبل أن تتوفر لإيران الإشارات التي أتاحت لها التمدد في اليمن وسوريا ولبنان.
الآن، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تدفع الثمن. فالثعبان الذي وفرت له كل وسائل النمو والتمدد، صار يلدغها، ويوجه لها تهديدات، ويريد أن يفرض نفوذًا على حساب مصالحها بالذات.
وحيثما بات كل شيء واضحا من ناحية الفشل الاستراتيجي حيال النفس، جاء الرئيس "بايدن" ليزيد الطين بِلة عندما اختار أن يتخذ موقفا معاديا تجاه السعودية، وزاده بخفض التزاماته الأمنية، برغم معرفته أن "الشريك" السعودي والإماراتي يتعرض لأعمال عدوانية من جانب الجماعة الإرهابية، التي ترعاها إيران في اليمن.
واحدة من أكثر مشكلات الولايات المتحدة وضوحا وتكرارا في علاقاتها الخارجية، هي الاعتقاد الراسخ بأنها من القوة بحيث تستطيع ارتكاب أخطاء جسيمة، وتتغلب عليها. و"الأخطاء أو الأزمات يمكن أن تنقلب من مأزق إلى فرصة".
لقد ظل هذا الاعتقاد صحيحا لوقت طويل. ولكن ليس بعد. ليس في عالم اليوم. الدرس الواجب من علاقات اليوم الاستراتيجية يقول: لا تستغنِ عن حليف. لا تفعل أشياء تضره من وراء ظهره. وكن شريكا حقيقيا في ساعة الاختبارات الجادة.
لم تستوعب إدارة الرئيس "بايدن" هذا الدرس. ولكن مجيئه إلى جدة قدّم وعدًا. وقوبل هذا الوعد بالترحيب والرغبة والثقة.
الآن جاء وقت الاختبار. "الحوثي" الإرهابي سوف ينقلب على الهدنة في اليمن. هذا ما يهدد به علنا. وهو يقوم بتدميرها كل يوم تحت سمع وبصر الأمم المتحدة.
واشنطن تدرك أن التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، بقيادة السعودية، فعل كل شيء من أجل المحافظة على الهدنة. وهو لا يريد للحرب أن تعود فتندلع من جديد. من ناحية لأسباب إنسانية. ومن ناحية أخرى لأن الشرعية اليمنية نفسها تحتاج إلى أن تستقر وتعزز مواقعها وتستأنف دورها كمؤسسة سلطة وطنية تخدم كل مواطنيها، بمن فيهم الذين يعيشون تحت سيطرة وتسلط مليشيا "الحوثي".
الأدلة على هذا المنهج واضحة، ليس لواشنطن وحدها، وإنما للأمم المتحدة أيضًا، والتي حصل مبعوثوها على كل التسهيلات، التي رغبوا فيها.
فما من أحد قدّم مساعداتٍ إنسانيةً وخدماتٍ وتمويلاتٍ لعمليات الإغاثة أكثر من السعودية والإمارات. ولقد قُدمت هذه المساعدات بدافع الرغبة في السلام، وبدافع الأمل في أن يعود الشعب اليمني، في كل أرجاء البلاد، ليستنهض قواه لطيّ صفحة الحرب وبدء مسار إعادة الإعمار.
قد لا يمكن نسيان جريمة الحصار المتواصل ضد "تعز". كما قد لا يمكن نسيان جريمة قتل الأطفال في حي الروضة، ولكن عندما تنهار الهدنة وتستأنف الجماعة الإرهابية أعمالها التخريبية، سوف ينظر الجميع إلى ما تفعله واشنطن، لتحدد بنفسها ما إذا كانت "شريكا استراتيجيا" فعلا، أم أنها مجرد صديق لحظة عابرة من الزمن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة