بالتقويم الفيزيائي، قد تبدو سنوات طويلة، لكن بمعناها الإنساني، لا تتجاوز تلك العقود من الزمن لحظة خاطفة اختصرت المسافات والأزمنة وترجمت علاقاتٍ متجذرة.
ففي 3 يوليو/تموز 1975 -كان يوم جمعة- وصل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـطيّب الله ثراه ـ مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى مطار أورلي بباريس، في أول زيارة يجريها حينها إلى فرنسا.
في الصحف، التي واكبت الحدث، انتشرت صور استقبال الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان من قبل الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان، إضافة إلى محاور المحادثات وغيرها من المعطيات البروتوكولية.
لكن لا أحد من الجماهير كان يعرف أن فتى لم يتجاوز الرابعة عشرة كان برفقة الشيخ زايد، وأن الصور العائلية كانت توثق تلك اللحظات، التي عبرت الزمن لتظل شاهدة على عهدين وتاريخ.
لم يكن ذلك الفتى سوى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، نجل الشيخ زايد، وهو نفسه الذي احتفظ بتلك الصورة على مدى أكثر من أربعة عقود تغيّر فيها الكثير، لكنها ظلت النقطة الثابتة في المكان.
فإلى باريس عاد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولكنه يعود هذه المرة بصفته رئيسا لدولة الإمارات، وفي قصر فرساي التاريخي، حيث أقيمت مأدبة عشاء على شرفه، عاد بعقارب الساعة إلى الوراء، فظهر ذلك الشاب الأنيق ببدلته الرسمية وربطة عنقه، تعلو مُحيّاه الابتسامة ذاتها والنظرات نفسها.
اختزلت الصورة 47 عاما، فجرّدت الزمن الفيزيائي من تقويمه وقلّصته إلى لحظة بحجم تاريخ.. بدت الصورة وحدها تُغْني عن مجلدٍ من الكلمات حول العلاقات الإماراتية الفرنسية.
روابط تعززت عبر الزمن وكتبت ملحمة روائية مدت جسور التواصل فتوافقت الرؤى حول ملفات السياسة والاقتصاد وتوسعت لتبلغ الفنون والتواصل الحضاري بين الشرق والغرب، من خلال "اللوفر أبوظبي"، المشروع الذي تتقاطع عنده ثقافة الشرق والغرب، عابرة من باريس إلى أبوظبي.
فمن مياه نهر السين إلى ضفاف الخليج، أبحرت العلاقات الفرنسية الإماراتية، واختارت الشراكة والتعاون مرساها، وصنعت من أهدافها المشتركة مرفأ ينبض حياة ويرسم بتاريخه وحاضره مستقبل الأجيال هنا وهناك.
"هذا أنا"..
تبدلت أرقام التقويم الفيزيائي، فراكمت عليها سنوات ارتقت فيها دولة الإمارات سلم النجاح، وغدت فيه نموذجًا يُحتذى على جميع الأصعدة.. قفزت نحو المستقبل بمقدار سنوات ضوئية، لكنها لا تزال مع ذلك تحتفظ في ذاكرتها الجماعية والخاصة بصور تأبى النسيان.
قبل 47 عامًا، رافق زكي نسيبة، المستشار الثقافي الحالي لرئيس الإمارات، الشيخ زايد إلى باريس.. وشاءت الأقدار أن يكون موجودًا في زيارة الشيخ محمد بن زايد الأخيرة.. بحركة تلقائية، أوقف الزمن وهو يتشارك مقطع فيديو، يظهر الشيخ محمد بن زايد وهو يُطلع الرئيس الفرنسي وزوجته، بريجيت ماكرون، على صورة أول زيارة دولة رسمية من الإمارات إلى فرنسا.
رحل الشيخ زايد بن سلطان، لكن مسيرة البناء وتعزيز العلاقات الدولية ظلت على دربه، وظلت الإمارات متمسكة بنهجه، فاحتفظت تلك الصورة، التي التُقطت ذات يوم في باريس بعمقها نفسه، وعادت الابتسامة ذاتها إليها بعد عقود، ولم يتغير سوى تلك الألوان، التي امتزجت من قاعدة الأبيض والأسود وانصهرت لتُفرز تدرجاتٍ رائقة اختزلت سنوات البناء.
كانت زيارة الشيخ زايد الأولى له حينها إلى فرنسا، وكذلك كانت زيارة الشيخ محمد بن زايد الأولى له إلى البلد الأوروبي كرئيس لدولة الإمارات.. اختلف زمن الرحلتين لكن المغزى كان واحدًا، وتعددت الأسباب لكن الهدف كان واحدا.
ففي الزيارتين، كانت العلاقات محور المباحثات، وشكّل تعزيز وتوسيع آفاق التعاون نقطة ارتكازها، والقضايا الإقليمية والدولية أحد أعمدتها، فكانت النتيجة ما تراكم من زمن البناء إلى ما بعد التمكين، ومن جيل التأسيس إلى سواعد التطوير.
استبطنت زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى فرنسا رمزية استثنائية، وبعثت برسائل تؤكد أن دولة الإمارات تعتبر البلد الأوروبي طرفًا مهما في معادلة الأمن والاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط، وأن العلاقات بلغت مستويات عالية تجاوزت التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية.
ذهب الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى باريس فتى مرتديًا بدلة وربطة عُنق، وعاد إليها بعد سنوات رئيسًا مرتديا الكندورة والغترة، رمز الدولة والخليج.. وما بين الصورتين عقود من البناء والتقدم والرفاه، وما بين التاريخين صورة ثابتة لم تحركها مجاذيف الزمن وابتسامة هادئة تتحدى انسياب السنوات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة