جاءت مصر ثم أتى التاريخ.. ليست مقولة تتباهى بها مصر، ومن خلفها العرب، بل هي حقيقة تعيشها تلك البلاد التي تتجدد كل حين، فهذا قدرها وتلك هي أيامها..
حتى عندما كان الاستعمار جاثمًا على أرض العرب، فعندها خرجت ثلة من الضباط الأحرار وقادوا ثورة 23 يوليو 1952 وأعلنوا تحرير مصر من قيودها.
كانت ثورة ملهمة في وقت عصيب من التاريخ، فلقد تتابعت الحَربان العالميتان الأولى والثانية على العالم، وأنتجت نظامًا سياسيًّا كان العالم العربي ضحية فيه بوجود القوى الاستعمارية.
تلقفت الشعوب الثورة المصرية ومثلت فجرًا طال انتظاره للخلاص من الاستعمار الأجنبي، كانت نقطة تحول سياسية غيّرت شكل العالم، خاصة وأن المصريين أنفسهم مدوا أيديهم للشعوب العربية لمساعدتهم في تحقيق الاستقلال الوطني، تلك واحدة من أعمق الحوادث التي عرفها العالم في استنهاض الشعوب ودفعها لتحقق ما يجب عليها أن تحققه، مصر بحكم أسبقيتها التنويرية شكلت الرافعة القومية للشعوب.
محمد نجيب، القائد الأول لثورة يوليو، قدّم أنموذجًا في قدرة الثورة على ضبط النفس وعدم الانتقام من النظام الملكي بترتيب خروج آمن للملك فاروق، فكانت لمحة عززت من الصورة الملهمة التي حاولت بلدان عدة استنساخها بعد أن تقدم الزعيم جمال عبد الناصر وأطلق روحًا ثورية دفعت بالشعوب أكثر، خاصة وأنه تعامل مع مسألة جلاء بريطانيا بحزم، حتى جاء إعلان تأميم قناة السويس، 1956، وهو الحدث الذي تشكّل منه مفهوم الأمن القومي العربي بعد العدوان الثلاثي.
شخصية الرئيس جمال عبد الناصر جسّدت "فلسفة الثورة"، فألهمت العرب والأفارقة والعالم، وصنعت نسيجًا من البعد الملهم حول التحديات التي دخلت فيها مصر إلى فرص بالإمكان استثمارها اقتصاديًّا.
فالسد العالي كان مشروعًا حيويًّا للداخل المصري، لكنه أصبح حدثًا قوميًّا عمل على توسيع أفكار الثورة، وهو ما زاد أكثر من حضورها، وهو ما يمكن أن يُفسر النقلة المعرفية في العالم العربي، التي توسعت من خلالها فرص التعليم بما فرضته الثورة من التعليم المجاني ومكافحة الأمية.
نكسة 1967 صنعت في المقابل حرب الاستنزاف ومهدت الطريق لحرب العبور في 1973، وبين الحربين تشكلت الخرائط السياسية للدول الوطنية العربية بحدودها السياسية التي انتهى عليها القرن العشرين.
حتى ومصر تخوض حربًا دفينة مع جماعة الإخوان، فإن جهودها في هذه المواجهة أسهمت في تشكيل وعي عربي سياسي ومعرفي ما زالت إرهاصاته ممتدة حتى هذا العصر المتقدم تكنولوجيًّا، ما يؤكد ما كانت عليه التفاعلات المعرفية التي تشكلت بعد ثورة يوليو 1952.
خلال الحقبة الناصرية ثم مرحلة السادات، وحتى مبارك، ظلت مصر في التزام ثابت لم يتزحزح حول الأمن القومي العربي.
نقطة الاختبار الأصعب كانت في الغزو العراقي للكويت عام 1990، فكان الموقف المصري مؤكدًا للمبدأ الوطني، وهو ما لم تخرج عنه مصر إلا في عام حكم الإخوان لها، وهي الفترة الوحيدة التي انحرفت فيها امتدادات ثورة يوليو عن مبادئها بانتهاج خط يُسقط المفهوم الوطني على حساب الدولة الأممية، وهي الخرافة "الإسلاموية" البالية.
في اليوبيل البلاتيني لحركة الضباط المصريين الأحرار كثير من الحوادث التي صنعت واقع العالم العربي.. فما زالت هذه المنطقة تعيش متأثرة بإرث تلك الحركة الوطنية السياسية، وبكل ما حملت واحتملت الجغرافيا الممتدة من الخليج إلى المحيط، تعيش امتنانًا لتلك الحركة الثورية الجسورة، فلولاها ما تنفس العرب الحرية وما توسع التعليم وما رُسمت الحدود السياسية، وما ارتفعت الرايات الوطنية على السواري.
مرور سبعين عامًا على ثورة 23 يوليو المصرية مناسبة تحمل إرثًا كبيرًا من التواريخ شأنها شأن كل الحركات عبر العصور البعيدة، فهي التي جسدت حاضرنا، وهي التي صنعت "مصر السيسي" بكل ما فيها من استعادة لذلك الالتزام الذي دفعت فيه مصر الكثير من دماء أبنائها في البلاد العربية.
فالأمن القومي ظل وسيبقى نواة ملهمة للأجيال مهما تعاقبت الأمور على أمة تمتد حضارتها لسبعة آلاف عام في التاريخ، فهي أم البلاد وشمسها الوضاءة.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة