حافظت العلاقات الخليجية-الأمريكية، طوال أكثر من سبعة عقود، على مكانتها بصفتها تحالفًا استراتيجيًّا قويًّا وراسخًا نشأ في الأساس على معادلة "الأمن مقابل الطاقة".
بيد أن هذه العلاقات شابتها شوائب عدَّة في العقدَين الأخيرَين، نتيجة تطورات فرضتها التحولات الدولية والإقليمية، ولا سيَّما تراجُع اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على الواردات النفطية الخليجية عامّة، وتنامي الاعتماد على النفط الصخري الأمريكي خاصّةً، وكذلك المواقف التي عبَّرت عنها آخر ثلاث إدارات أمريكية -وتحديدًا منذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015- بتراجع الاهتمام الاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط، والتركيز على مناطق أخرى أكثر أهميةً، وتزايد شكوك دول الخليج العربية في مدى التزام الولايات المتحدة أمنَ المنطقة، فضلًا عن توجُّه هذه الدول إلى تنويع شراكاتها الدولية، وتعزيز قدراتها الذاتية والمشتركة، حمايةً لمصالحها.
وقد تسبَّبت أحداث عدَّة في تعميق التحول الذي طرأ على العلاقات الخليجية- الأمريكية، أبرزها سياسات واشنطن في العراق بعد عام 2003، التي عزَّزت النفوذ الإيراني، وتركت هذا البلد العربي الكبير لُقمةً سائغةً للهيمنة الإيرانية، وكذلك الموقف الأمريكي مما يُسمَّى "الربيع العربي"، الذي أكد أن الولايات المتحدة ليست حليفًا موثوقًا به ويُعتمَد عليه، إضافةً إلى موقف واشنطن من أزمة اليمن، وحرصها على عدم تقديم الدعم الكافي إلى التحالف العربي خشية إغضاب إيران، وأخيرًا الإصرار الأمريكي على العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران دون أخذ المخاوف الخليجية من السلوكيات العدوانية الإيرانية في الحسبان.
وقد تجلَّت كل هذه الأمور والشكوك في التوتر المكتوم الذي طرأ على العلاقات الخليجية-الأمريكية عقب اندلاع أزمة أوكرانيا، وتمسُّك العواصم الخليجية بموقف مُحايِد حيال طرفَي الصراع "الغرب وروسيا" على النقيض من رغبة واشنطن في موقف خليجي داعم لها، ولا سيَّما في مجال إنتاج النفط بكل ما ينطوي عليه هذا المطلب من تجاهل للمصالح الخليجية الكبيرة مع روسيا.
وقد أظهرت هذه المؤشرات والشواهد والأحداث، فعلًا، أن التحالف الأمريكي-الخليجي يتعرَّض للتآكل.
ويمكن القول إن تولّي إدارة جو بايدن -بمواقفها المتشددة تجاه السعودية تحديدًا- السلطة في البيت الأبيض، كان يُمثّل جزءًا كبيرًا من التحول الذي تشهده العلاقات الخليجية-الأمريكية، فالرئيس بايدن الذي تعهَّد في حملته الانتخابية بعزل السعودية وجعلها "دولةً منبوذةً"، ومحاولة عرقلة صفقة طائرات "إف-35" لدولة الإمارات العربية المتحدة، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.. كل ذلك كان يشير إلى أن المسار الذي تسلكه هذه العلاقات يسير في الاتجاه العكسي، لكنَّ هذه الإدارة اصطدمت بحقائق جيوستراتيجية جعلتها تُراجِع موقفها، وتدرك أن التحالف الاستراتيجي مع دول الخليج العربية هو مصلحة للولايات المتحدة قبل أن يكون كذلك لدول المنطقة، وأبرز هذه الحقائق هي:
1- الدور المحوري لدول مجلس التعاون في أسواق الطاقة العالمية، إذ اتجهت أنظار العالم كلّه إلى منطقة الخليج بصفتها منقذًا من أزمة الطاقة التي خلَّفتها الحرب الأوكرانية، وبديلًا موثوقًا به لمصادر الطاقة الروسية التي يحاول الغرب فرض قيود عليها عقابًا لموسكو.
2- المكانة الجيوستراتيجية البالغة الأهمية التي أصبحت دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية ودولة الإمارات، تحظى بها بصفتها فاعلًا رئيسيًّا، ليس في مواجهة الأزمات الإقليمية وحلّها، ورسم ملامح مستقبل المنطقة فقط، بل على صعيد الأزمات العالمية الكبرى، مثل "كوفيد-19"، والتغيُّر المناخي، وغيرهما، أيضًا.
3- الطموحات التنموية والاستراتيجيات المستقبلية التي تتبنَّاها دول المنطقة -وخاصةً السعودية ودولة الإمارات- وتشير إلى أن هذه الدول سيكون لها تأثيرها المتزايد على الصعيدَين الإقليمي والعالمي مستقبلًا، ولا سيَّما في ظلّ ما تملكه من فوائض مالية تساعدها على تحقيق هذه الطموحات والاستراتيجيات، وهو أمر لا يمكن أن تتجاهله أي قوة دولية.
4- إدراك الإدارة الأمريكية أن الخروج من المنطقة يعني ترك فراغ تسعى القوى المنافسة، مثل الصين وروسيا، إلى ملئه، وهو ما يُؤثّر سلبًا في مكانة الولايات المتحدة الدولية، التي لا بدَّ من أن تمُرّ محاولة استعادتها -بحسب ما وعد الرئيس بايدن- عبر استعادة التحالف القوي مع دول مجلس التعاون.
وأمام هذه الحقائق لم تجد إدارة بايدن بدًّا من تصحيح المسار مجددًا بمحاولة إعادة العلاقات الخليجية-الأمريكية إلى طبيعتها التحالفيَّة، ومن هنا جاءت زيارة بايدن المنطقة التي حاول تبريرها في مقال مطوَّل، بصفتها تخدم المصالح الأمريكية، وهي حقيقة لا خلاف فيها، ولكنَّ تصحيح المسار يتطلَّب بكل تأكيد أكثر من مجرد زيارة، يتطلب مراجعة واشنطن جميع سياساتها تجاه المنطقة، وإعادة كسب ثقة الحلفاء بها باتخاذ مواقف وسياسات واضحة تأخذ مصالح دول الخليج العربية في الحسبان، وتنظر إليها بصفتها شريكة حقيقية، وهي كلها أمور ليست سهلة، وتحتاج إلى خطط فعليَّة وسياسات عمليَّة تستعيد الثقة المفقودة بين واشنطن والعواصم الخليجية.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة