يكاد يكون رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، من بين مكونات الحالة الشيعية السياسية في العراق كافة، أكثر من وظف التشييع في العمل السياسي.
سبق الرجل كل أقرانه على إعادة تقديم سردية ملتوية ومسيّسة عن التاريخ، ثم بالغ في ربطها بالحاضر، كما حين اعتبر أن المعارك السياسية في عراق اليوم هي امتداد للمعركة بين "يزيد" و"الحسين" بلا زيادة أو نقصان.
بيد أن التسريبات الأخيرة لتسجيلات "المالكي" تفضح كون هذا الاستحضار المرَضي للتاريخ، والتوظيف الفاقع للمفردات والأفكار الشيعية ليس سوى تجارة بينة بالمذهب وأهله.
التسجيل فضيحة للمالكي بلا أدنى شك، لكنه، وهذا الأهم، فضيحة لنموذج "المالكي" الذي هو النموذج الإيراني المفضل في كل الدول التي تنشط فيها المليشيات الموالية لطهران.
يقوم هذا النموذج على مرتكزات رئيسية ثلاثة؛ أولوية السلاح وفقه المليشيات، والتجارة بالمذهب وأهله وشخصياته لتحقيق أغراض سياسية تحددها إيران لا أي من الدول الواقعة تحت هيمنتها، وثالثًا الارتباط الحاسم بـ"الحرس الثوري" الإيراني.
يتضح من التسجيل المسرب، ومدته 48 دقيقة، وسُرّب على دفعات، ثم نشر بالكامل، أن السلاح المليشياوي هو أولوية "المالكي" في العمل السياسي.
فرغم أن العراق وفر لـ"الشيعية السياسية" فرصة بناء "دولتهم" على أنقاض دولة البعث "السنية"، بحسب خطاب "المالكي"، فإن الأولوية لم تكن يومًا بناء الدولة ومؤسساتها وتقديم نموذج ناجح لما يمكن أن تكون عليه منتجات التدخل الإيراني، بل بناء المليشيات التي تظل رديفًا جاهزًا يعمل بين ما يعمل عليه وبإصرار على إضعاف الدول وإنهاك مؤسساتها وبهدلة دساتيرها فتحًا للمجال أمام الهيمنة الإيرانية.
هذه هي الحال في لبنان وسوريا واليمن والعراق، الذي لا يزال يقاوم من لدن الطائفة الشيعية، خلافًا للحال في "الساحات" الأخرى.
إذا كان من عبقرية سياسية للاستراتيجية التي وضعها ونفذها قاسم سليماني قبل مقتله، هي في تعزيز أولوية المليشيات وعدم الوقوع في إغراء الهيمنة على الدولة من خلال المؤسسات، فللدولة ومؤسساتها، في عقل سليماني، وظيفة وحيدة هي إسباغ الشرعية على المليشيات، على أن يبقى الفصل قائمًا بوضوح بين ما هو مليشيا وبين ما هو دولة.. أي بين "حزب الله" وحكومة بيروت، وبين "الحشد الشعبي" الولائي وبين حكومة بغداد.
أما المرتكز الثاني، أي الاتجار بالمذهب وأهله، فيقدم تسجيل "المالكي" مصداقًا واضحًا عليه.
فرئيس الحكومة العراقية الأسبق يفصح في حديثه أن هذا السلاح يمكن أن يستخدم ضد الشيعة أنفسهم كما ضد غيرهم حين تقتضي مصلحة الاستمرار في لعبة السلطة، وضمان استمرارية التأثير لليد الإيرانية.
يقول "المالكي" بالحرف مستهدفًا بحديثه زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر "إن المرحلة المقبلة مرحلة قتال، بالأمس قلت ذلك لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وقلت لا أعتمد عليك، أو على الجيش والشرطة، إنهم لن يفعلوا شيئًا. العراق مقبل على حرب طاحنة لا يخرج منها أحد، إلا إذا استطعنا إسقاط توجهات الصدر والحلبوسي ومسعود البارزاني".
يدين هذا الكلام "المالكي"، لكنه يسجل مضبطة اتهام ثمينة بحق إيران التي لا تمانع الحرب الأهلية حتى بين الشيعة بهدف حماية نفوذها في العراق، بصرف النظر عن مصلحة الشيعة في هذا النفوذ وحدوده.
لقد حملت تصريحات "المالكي" عدوانًا لفظيًّا على الشيعة عمومًا حين وصفهم بأنهم "أرذال"، وحملت إهانات شبه مباشرة للمرجع السيد علي السيستاني، عبر اتهامه بالتقصير الذي يشبه التواطؤ، والذي يمهد لعودة البعث إلى السلطة -ما يعنيه عودة السنة وليس البعث!!- فالسمعة مباحة وكذلك الكرامة والدم، بحسب ما يمكن استنتاجه من تسريبات "المالكي".
أما ما يشرعن ذلك، فهي المصلحة السياسية الإيرانية، التي ليست هي بالضرورة مصلحة المذهب وأهله وأعيانه في العراق.
في مقطع آخر يقول "المالكي" متوجهًا لزواره، وهم عناصر وقادة مليشيا عراقية شيعية: "هل لكم علاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ وهل لديكم إشكال أن نطلب دعمًا منهم، فأنا اليوم سأستقبل شخصًا منهم، وسأمهد للقاء لكم معهم، أنا فقط أرتب لكم موعدًا معهم وأبلغهم بضرورة دعمكم، لأنهم يشعرون أيضًا بخطورة الوضع، وأنا أوصيهم بكم، وليكن حديثكم مع (الحرس الثوري)".
يكشف هذا الكلام عن المرتكز الثالث للنموذج الإيراني الذي يفضحه تسجيل "المالكي"، بمثل ما يفضح "المالكي" شخصياً وأكثر.
فالارتباط بـ"الحرس الثوري" وعلى لسان رئيس وزراء دولة نفطية كالعراق، هي طريقة عمل النموذج الإيراني.. لا فرق هنا بين رئيس وزراء وبين زعيم مليشيا كحسن نصر الله، الذي يقول إن أمواله وسلاحه ورواتبه تأتي من إيران، أو يقول في موضع آخر ما معناه إن "أحلام المرشد أوامر"!
وقد سبق للمالكي أن صعد بهذه التبعية درجة أعلى، فحول موارد العراق إلى شريان حياة لـ"الحرس الثوري" الإيراني وزعيمه المقتول قاسم سليماني، حين كانت حكومته تضع جانبًا عائدات 200 ألف برميل يوميًّا من النفط الخام، أي ما يعادل 20 مليون دولار يوميًّا بحسب أسعار اليوم، وتُسلّمها لسليماني لتمويل مشروعات "الحرس الثوري" في العراق وخارجه.
ما يقوله "المالكي" في التسجيل هو ما مارسه من موقع المسؤولية في الدولة، كما من موقع الناشط السياسي ضمن برنامج تصدير النفوذ الإيراني إلى دول الجوار.
وعليه، يتجاوز ما نحن بإزائه، تسجيلاً يحرج سياسيًّا أو يهدد مستقبله السياسي.. فضيحة "المالكي" هي فضيحة النموذج الإيراني برمته ودليل ساطع على ما تشكو منه دول المنطقة حين تتحدث عن "السلوك الإيراني المزعزع".
هذا تسجيل صوتي للعقل العميق للمشروع الإيراني، ولاستراتيجية "الحرس الثوري"، ووثيقة جيوسياسية، هي أهم ما وضع بين أيدينا منذ عقود طويلة.. الكلام لم يخرج من فم المالكي بقدر ما خرج من صميم العقل الجالس في طهران.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة