لا أحد في المملكة يفكر بطريقة مواجهة الضربة بضربة أخرى، أو أن ما يدور بين الدول يخضع لقواعد "الثأر" بين العائلات
الاعتداء الإيراني الأخير على المملكة العربية السعودية يشكل نقطة فارقة في تاريخ المنطقة وربما في تاريخ العالم، لم يكن هذا الاعتداء هو الأول من نوعه فقد سبقه سلسلة من الاعتداءات بدأتها إيران عندما ضربت حاملات النفط في قلب الخليج، والاعتداءات على مضخات "أرامكو" في السابق، والضرب الصاروخي لمطار "أبها" المدني، مع عدد غير قليل من الصواريخ التي توجهت في مسارات شتى وبعضها فشل في الوصول ولكنه عندما وصل بعضها الآخر تصدت له وسائل الدفاع السعودية المضادة للصواريخ، ولكن الفارق هذه المرة أن القصف لمضخات النفط السعودية أخرج نصف الإنتاج النفطي السعودي من السوق النفطية العالمية، وكانت نتيجة ذلك الفورية هي قفزة هائلة في الأسعار، وباختصار أصيب سوق الطاقة العالمي بصعقة كهربائية كبيرة ارتبكت في إثرها أسواق المال والتجارة العالمية، ولم يكن في ذلك مفاجأة فقد كانت هناك سوابق، ولكن المفاجأة كانت أن إيران هذه المرة كانت تكسر المعادلة التي قامت عليها الأزمة الإيرانية مع الولايات المتحدة من ناحية، ومع المملكة ودول الخليج العربية من ناحية أخرى. وعلى الجانب الأمريكي يوجد الاتفاق النووي والعقوبات الأمريكية، والعالمية في الحقيقة، الواقعة على إيران، وعلى الجانب العربي السلوك العدواني الإيراني على دول عربية باستخدام مليشيات عسكرية وسياسية مثل الحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان وسوريا، والحوثيين في اليمن.
أما المعادلة هذه فقامت رغم دقة المواجهة على أنه لن يوجد من يريد حربا شاملة، فالدار الإقليمية نزف فيها من دم الشعوب ما يكفي خلال العقد الأخير، والتدخلات الدولية وصلت فيها إلى سقوف عالية، أما الدار الوطنية في كل دولة فإن فيها ما يكفي من ضغوط لركود مضني، وأخرى لديها "الربيع العربي" الذي لم يمر فيه نسمة، ولا نبتت فيه زهرة، وبقية المعادلة طالما أن الحرب ليست مطلوبة فإن السياسة يمكن أن تكون حربا بوسائل أخرى يقع في مقدمتها "الردع" الذي تبلور كاستراتيجية مهمة وحاكمة في العلاقات الدولية أثناء الحرب الباردة، الذي كانت الحرب فيه قائمة ولكن ليس فيها طلقة واحدة أطلقت بين العملاقين الأمريكي والسوفيتي.
لا أحد في المملكة يفكر بطريقة مواجهة الضربة بضربة أخرى، أو أن ما يدور بين الدول يخضع لقواعد "الثأر" بين العائلات، فربما كان أهم خصائص "الردع النشيط" أنه لا ينكر دور التحركات السياسية في كسب الحرب، ولكنه في الوقت ذاته يمثل طبولا يكفي الاستماع إلى دقاتها أن يجعل الحرب مستبعدة
"الردع" هو رسالة الدولة للخصوم أن لديها القدرات الكافية لإيقاع الأذى ممن يريدون الاعتداء عليها فيرتدعون، ويدخل في ذلك سباق التسلح الذي تجري فيه إقامة توازن للرعب يعلم فيه كل طرف مسبقا مدى الأذى الذي سوف يعتريه حال تصوره أنه قد حقق سبقا كافيا لشن الحرب، في هذه الحالة فإن التجارب، واختبارات الأسلحة، وتسريب أنباء المخترعات، كلها تتأكد أن رسالة الردع قد وصلت، وأن توازن الرعب قائم، وكان سير إيران في طريق إنتاج السلاح النووي واحدا من هذه الأساليب، وما ظهر مؤخرا من أسلحتها الصاروخية المتعددة أنها كانت تبني ترسانة أسلحة تقليدية ونووية ليس بهدف الاستخدام السلمي كما ادعت وإنما الاستخدام العسكري، و"الردع النشيط" هو حالة مختلفة ورسالة أخرى بأن الدولة لديها القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذه بعمل عسكري هو أعلى من حالة السكون، ولكنه أقل من حالة الحرب، وفي بعض التصورات والتطبيقات الاستراتيجية فإن تطبيق كلاهما بكفاءة قد يمنع الحرب من الوقوع، وربما يدفع الأطراف إلى البحث عن أدوات لبناء الثقة، وفي زمن الحرب الباردة كانت هذه تقوم على الإبلاغ المباشر بالمناورات العسكرية.
الضربة الإيرانية الأخيرة تعدت حدود "الردع النشط"، وربما كان دفع طهران للحوثيين لكي يعلنوا عن مسؤوليتهم عن القصف هو محاولة لإبقاء الردع في حدوده، إلا أن الدلائل والبراهين التي أعلنتها السعودية ومن قبلها أشارت إليها الولايات المتحدة صراحة من قبل الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، فإن التجاوز الإيراني مرصود، وعلى أي الأحوال، سواء كانت الضربات العسكرية الأخيرة على محطات شركة "أرامكو" السعودية لضخ النفط قادمة من اليمن (الحوثيين) أم قادمة من إيران (الولايات المتحدة)، فإن ما جرى هو سياسة للردع النشيط تقوم به الدولة الإيرانية لدفع الأطراف الدولية والإقليمية لرفع العقوبات عنها، مع الحفاظ على غنائمها الإقليمية في ذات الوقت.
ولكن استراتيجية الردع حتى تكون متكافئة لا بد أن تكون متبادلة وإلا اختل الميزان وقامت الحرب، وفي أعقاب القصف الإيراني أعلن الرئيس ترامب أن الولايات المتحدة مستعدة، وأسلحتها محشوة بالذخيرة الحية وعلى استعداد للضغط على الزناد، ولا بد أن هناك سيناريوهات أمريكية متعددة للأهداف الإيرانية لاستعادة التوازن العسكري مرة أخرى إلى المنطقة، ووضع خط أحمر على الاعتداءات التي تتسبب في المساس بأمن الطاقة والحالة الاقتصادية في العالم. أولها مضخات النفط الإيرانية، فتكون ضربة بضربة أخرى مساوية في المقدار، ومضادة في الاتجاه، والمؤكد أنه ليس البترول السعودي وحده هو القابل للاحتراق، وأن النفط الإيراني أيضا لديه قابلية التحول إلى دخان ولهب.
وثانيها فرض حصار بحري على الموانئ الإيرانية كما فعلت واشنطن إبان أزمة الصواريخ الكوبية، الحصار البحري هنا هو امتداد عسكري لتطبيق العقوبات على إيران، وفائدته أنه لا يكفل مواجهة مباشرة وسريعة، ولكنه يكفل سبيلا آمنا للتراجع.
وثالثها القيام بإنزال بحري والاستيلاء على الموانئ اليمنية وفي المقدمة منها الحديدة، فتكون العقوبة قد نزلت بمن اعترف بالقيام بالاعتداء، وبعيدا عن طهران في الوقت نفسه، وهي من الحجم الذي يدفع الحوثيون والإيرانيون لكي يكونوا أكثر جدية على مائدة المفاوضات، وبدون هذا الردع النشيط فإن إيران سوف تستمر في الضغط العسكري منها ومن قبل حلفائها، والتوجه الجاري لها حتى الآن هو نقل الحرب إلى الأراضي السعودية خاصة في المناطق الجنوبية؛ حيث كانت الخلافات الحدودية بين السعودية واليمن في الماضي.
المملكة من ناحيتها تعاملت مع الخطوة الإيرانية بقدر كبير من المسؤولية، فأعطت أولى رسائلها بأنها الدولة التي تتحمل مسؤولياتها تجاه الاقتصاد العالمي، فكان المخزون النفطي السعودي هو الذي انفتح لكي تنخفض الأسعار خلال فترة زمنية قصيرة، وقبل أن يتمدد القلق ويكثر الانزعاج. استراتيجيا فإن الخطوة السعودية معناها أنها لا تريد للقرار والردع أن يجري، وفي خلفيته إمكانية نشوب أزمة اقتصادية عالمية أو انكماش اقتصادي عالمي جرى التنبؤ به من قبل الكثير من الاقتصاديين على ضوء الحرب الباردة التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
الخطوة الثانية للسعودية كانت الانضمام إلى التحالف البحري الدولي لحماية الملاحة في الخليج الذي دعت الولايات المتحدة إليه في السابق، وهي رسالة لطهران أنه من الآن فصاعدا فإن هناك قوة لا قبل لها بها سوف تحمي الموانئ الخليجية من ناحية، ولن تسمح للتمادي الإيراني أن يجري في الخليج بعد الآن.
الخطوة الثالثة ربما لم تتبلور بعد، أو لعلها الآن موضع الاتصال بين أطراف عديدة للتنسيق والحشد، أو -ربما كان ذلك المهم- لا أحد في المملكة يفكر بطريقة مواجهة الضربة بضربة أخرى، أو أن ما يدور بين الدول يخضع لقواعد "الثأر" بين العائلات، فربما كان أهم خصائص "الردع النشيط" أنه لا ينكر دور التحركات السياسية في كسب الحرب، ولكنه في ذات الوقت يمثل طبولا يكفي الاستماع إلى دقاتها أن يجعل الحرب مستبعدة.. السيناريوهات المشار إليها تكفي لدق الطبول بقوة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة