صراع النفوذ الأمريكي-الروسي في أفريقيا.. لمن الغلبة؟

مع صدام حامي الوطيس في أوروبا، تتجاذب الولايات المتحدة وروسيا طرفي الخيط في أفريقيا، لترسما ملامح حرب باردة جديدة في القارة السمراء.
ومساء أمس الإثنين، وصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إلى جنوب أفريقيا، قبل التوجه إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية ثم رواندا، في جولة هدفها التصدي للنفوذ الدبلوماسي الروسي بالقارة.
وتأتي الزيارة بعد فترة وجيزة من الجولة الأفريقية التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في القارة السمراء، في سياق صراع النفوذ المحتدم بين القوتين العظميين.
وتتناول محادثات بلينكن في أفريقيا، "التطورات الأخيرة والحالية في خصوص الوضع الجيوسياسي العالمي".
تحركات على رقعة الشطرنج
الخارجية الأمريكية قالت نهاية يوليو/تموز الماضي أن بلينكن سيحاول أن يثبت "للدول الأفريقية أن لديها دورا جيوسياسيا أساسيا وأنها تمثل حلفاء جددا مهمين في المسائل الأكثر إلحاحا، في عصرنا، وكذلك في تطوير نظام دولي منفتح ومستقر للحد من مفاعيل التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي".
وهذه ثاني جولة لوزير الخارجية الأمريكي في أفريقيا جنوب الصحراء منذ توليه مهامه في إدارة الرئيس جو بايدن، بعدما زار كينيا ونيجيريا والسنغال العام الماضي.
وتأتي زيارة بلينكن في أعقاب إعلان الإدارة الأمريكية، عن قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي ستعقد في العاصمة واشنطن، خلال ديسمبر/كانون أول 2022.
وقبل الحرب في أوكرانيا، كانت الدبلوماسية الأمريكية في أفريقيا تتركّز على المنافسة مع الصين، التي وظفت استثمارات مهمة في البنى التحتية بالقارة الأفريقية، بدون أن ترفق استثماراتها بمطالب على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان كما تفعل الولايات المتحدة.
لكن التحركات الجيوسياسية الروسية في القارة الأفريقية في الفترة الأخيرة، خاصة جولة لافروف، دفعت باتجاه تحول في السياسة الأمريكية إلى مواجهة النفوذ الروسي، وفق مراقبين.
هذا التحول يشمل إعادة صياغة شاملة لسياسة الولايات المتحدة في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تعتزم مواجهة الوجود الروسي والصيني وتطوير أساليب غير عسكرية ضد الإرهاب.
وتأخذ هذه الاستراتيجية الجديدة في الاعتبار الأهمية السكانية المتزايدة لأفريقيا وثقلها في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى مواردها الطبيعية الهائلة وفرصها.
4 أهداف لـ5 سنوات
وتؤكد وثيقة تحمل عنوان "استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء"، نشرت أمس الإثنين، على 4 أهداف تمتد لخمس سنوات، تشمل "دعم المجتمعات المفتوحة وتقديم مكاسب ديموقراطية وأمنية لها، والعمل على الانتعاش بعد الجائحة، وإتاحة الفرص الاقتصادية ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه، والتحول المنصف للطاقة".
وهاجمت الوثيقة الأمريكية روسيا بشكل مباشر، وقالت إن موسكو "ترى أن المنطقة تمثل بيئة مستباحة للشركات شبه الحكومية والعسكرية الخاصة، وغالبًا ما تخلق حالة من عدم الاستقرار لكسب مزايا استراتيجية ومالية"، وفق وكالة "فرانس برس".
أثر لافروف
أواخر يوليو/تموز الماضي، قام وزير الخارجية الروسي، لافروف، بجولة أفريقية شملت أربع دول، أهمها مصر وإثيوبيا والكونغو، وتهدف إلى حشد الدعم لموسكو في وقت تتصاعد فيه حدة المواجهة مع القوى الغربية بشأن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وكانت معظم الدول الأفريقية، التي تدرك أهمية المصالح الاقتصادية والعلاقات التاريخية مع كل من روسيا والغرب، قد رفضت الانحياز لأي طرف في الأزمة الأوكرانية.
وفي جولته الأفريقية، شدد لافروف على أن العالم يعيش "نظاما دوليا متعدد الأقطاب"، مهاجما "الهيمنة الأمريكية"، ومبديا استعداد روسيا لدعم الدول والقضايا الأفريقية.
كما هيمنت على تصريحات لافروف، تقديم روسيا كصديق جدير بالاحترام لأفريقيا على عكس القوى الغربية "المتعجرفة ذات العقلية الاستعمارية"، حسب تعبيره.
ووفق مراقبين، فإن جولة لافروف كانت محاولة لحشد دعم الدول الأفريقية التي تتمتع بعلاقات تاريخية قوية مع روسيا، وسط إدانة الدول الغربية للحرب في أوكرانيا وفرض عقوبات غربية على روسيا.
وقبل جولة لافروف بعدة أشهر، أبرمت روسيا اتفاقيات سياسية وعسكرية مع عدد من البلدان الأفريقية.
وهذه ليست المرة الأولى التي تنخرط فيها روسيا في أفريقيا، إذ لعب الاتحاد السوفيتي السابق في خمسينيات القرن الماضي، دورا قويا في القارة، وقدم الدعم لحركات التحرر في أنحاء أفريقيا، ما يجعل روسيا تتمتع باحترام وترحيب كبيرين في القارة.
سياق التنافس
ويأتي التنافس الأمريكي الروسي على أفريقيا، في وقت تشكل فيه الضغوط الاقتصادية والصحية والجيوسياسية الحالية، لحظة فريدة من المرجح أن تعيد ترتيب الأولويات وتدفع باتجاه المزيد من الإجراءات الصعبة.
ولا تزال البلدان الأفريقية تعاني من صدمات اقتصادية شديدة بعد محاولتها التعافي من اضطرابات كورونا، وإدارة الأزمات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، مع توقف الصادرات الزراعية والغذائية من كلا البلدين.
وتهدد الحرب في أوكرانيا سلاسل الإمدادات الغذائية الهشة بالفعل في أفريقيا.
كيف عادت روسيا؟
رغم الانطباع السائد بأن عودة روسيا لأفريقيا مرتبطة بسياق الصدام الحالي مع الغرب، إلا أن موسكو دشنت سياستها الجديدة في القارة السمراء تدريجيا منذ عام 2019.
وفي هذا العام، تزايد التعاون الأفريقي الروسي بشكل ملحوظ، ما أدى إلى انعقاد قمة روسية أفريقية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كانت إشارة عودة موسكو إلى دورها بأفريقيا، بعدما تراجع دورها بانهيار الاتحاد السوفيتي بداية من عام 199١.
وظهر نفوذ موسكو المتزايد في أفريقيا في مارس/آذار الماضي، أثناء تصويت الأمم المتحدة لإدانة الهجوم الروسي في أوكرانيا.
وبينما صوتت 28 دولة أفريقية لصالح القرار، صوتت نسبة كبيرة من دول القارة (25) إما بالامتناع عن التصويت أو عدم التصويت على الإطلاق.
لكن هذه العودة السياسية الروسية، جاءت بعد عودة اقتصادية وعسكرية متدرجة إلى أفريقيا؛ فخلال العقدين الماضيين، استطاعت روسيا لعب دور في أفريقيا، وقامت بإبرام اتفاقيات في مجال الطاقة النووية وتصدير الأسلحة، لتصبح أكبر مصدر للأسلحة إلى هذه القارة.
وأشار إلى ذلك التقرير السنوي الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عام 2020؛ إذ ذكر أن الصادرات العسكرية الروسية لأفريقيا مثلت 18٪ من إجمالي صادرات روسيا من الأسلحة في الفترة ما بين عامي 2016 و 2020.
ولم تتوقف مساعي روسيا في تعزيز وجودها في أفريقيا على الجانب العسكري، بل سعت إلى بيع التكنولوجيا النووية لعدد من البلدان الأفريقية مثل زامبيا ورواندا وإثيوبيا ومصر ونيجيريا حيث تبنى موسكو محطات للطاقة النووية.
3 دعائم
وبصفة عامة، فإن الاستراتيجية الروسية في أفريقيا تقوم على ٣ دعائم رئيسية، هي التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي مع معظم الدول الأفريقية.
وكانت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بعد ضمّ شبه جزيرة القرم بشكل منفرد عام 2014، أهم دوافع التوجه الروسي المتزايد نحو أفريقيا، وفق ما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن تحقيق استراتيجية "التحوّل" باتجاه آسيا وأفريقيا قبل سنوات.
وعن العودة الروسية، يقول أنتون هاربر، أستاذ الصحافة في جامعة ويتواترسراند في جنوب أفريقيا، في تصريحات صحفية إن الروس "يرون أفريقيا أرضًا خصبة لتنمية نفوذهم، وطبعا التصويت في الأمم المتحدة مهم".
هل تهدد أمريكا؟
عودة موسكو لأفريقيا، والتي باتت واقعا جليا، ينظر إليها في أوساط الكونجرس الأمريكي على أنها تهدد المصالح الجيوسياسية والاقتصادية الأمريكية بشكل كبير، وفق تقرير سابق لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية.
ووفق الصحيفة، فإن المشرعين الأمريكيين قلقون بشدة من استخدام موسكو لمجموعة "فاجنر" العسكرية لإبراز مكانة روسيا في القارة الأفريقية، وسلطوا الضوء على أنشطة المجموعة في مالي، وزعموا أنها أعطت روسيا موطئ قدم في غرب أفريقيا.
كما أعرب المشرعون عن قلقهم من أن نفوذ روسيا المتسع في جميع أنحاء القارة الأفريقية يمكن أن يطرد الولايات المتحدة من قطاع التعدين الغني في أفريقيا، مع التركيز بشكل خاص على المعادن النادرة مثل الكوبالت، وهو عنصر حاسم في بطاريات أيون الليثيوم القابلة لإعادة الشحن، والمستخدمة في الهواتف المحمولة والكهرباء، والمركبات والعديد من المنتجات الأخرى.
الأكثر من ذلك أن الكونجرس قلق أيضًا بشأن نجاح روسيا الأخير في حشد التأييد بين الزعماء الأفارقة ضد العقوبات الغربية، ما ظهر بشكل جلي في إصدار الرئيس السنغالي ماكي سال، الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي، نداءً عقب اجتماع مع الرئيس الروسي، طالب فيه الدول الغربية برفع الإجراءات العقابية التي تستهدف المنتجات الغذائية ، وخاصة الحبوب، وفق "واشنطن بوست".
لمن الغلبة اليوم؟
ووفق ما خلصت إليه الباحثة ميشيل غافين، لن يكون هناك نظام دولي مرن قائم على قواعد واضحة في المستقبل، لا يشمل دورا قياديا لأفريقيا ويراعي المصالح الأفريقية.
وتابعت في تعليق على موقع مجلس العلاقات الخارجية "بحثي": "يمكن للمرء أن يعترف بأن القوى الكبرى تسعى جميعها إلى التأثير في أفريقيا دون تأطير القارة كمكان للمنافسة بالوكالة".
لكنها أشارت إلى نقطة ضعف واضحة في الاستراتيجية الأمريكية بالقارة الأفريقية، قائلة إن "من الخطر تخيل أن الزيارات رفيعة المستوى وحزم المساعدات الطارئة، بحد ذاتها، تكفي للتغلب على الإهمال المستمر منذ فترة طويلة".
وتابعت: "السفارات التي تعاني من نقص الموظفين هي مجرد عرض واحد من أعراض السياسة الخارجية الأمريكية الذي تعاملت مع أفريقيا على أنها فكرة هامشية لفترة طويلة جدًا".
ومضت قائلة "سوف يتطلب الأمر خبرة وموارد والتزامًا مستدامًا لتجاوز إدارة الأزمات وتنفيذ استراتيجية مدروسة تناسب مصالح الولايات المتحدة ومستقبل أفريقيا الديناميكي".
هذه الأمور، وفق غافين، نقاط ضعف واضحة في سياسة أمريكا تجاه أفريقيا، مقارنة بروسيا.
ووفق مراقبين، فإن الاحترام والتقدير الذي تحظى به موسكو في القارة منذ فترة الاتحاد السوفيتي، تضع الروس في موقع متقدم خطوة على الأمريكيين في أفريقيا.
وفي ظل هذا التوصيف الحالي لوضع التنافس بين موسكو وواشنطن، فإن المستقبل يمكن أن يحمل تجليات حرب باردة جديدة بين القوتين في أفريقيا، يحسمها الأكثر اهتماما وقربا وحسما في قضايا القارة، وفق المراقبين