ماراثون "التعبئة" ضد روسيا.. "ثقب التجنيد" يبتلع خطط "الناتو"
لأول مرة منذ عقود، يمتلك حلف شمال الأطلسي "الناتو" خطة لمواجهة روسيا، في ظل التوتر المتزايد بينهما، لكنه لا يملك القوات الكافية لذلك.
وطوال القسم الأعظم من تاريخه، كان حلف شمال الأطلسي يواجه نفس المشكلة، وهي عدم وجود عدد كاف من القوات، أو على الأقل امتلاكه قوات أقل من خصومه.
وكان نقص القوات مشكلة طوال فترة الحرب الباردة، عندما نظر "الناتو" عبر خطوط حلف وارسو ورصد 6 ملايين جندي، مقابل 5 ملايين فقط في صفوفه بذلك الوقت.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت المشكلة أسوأ. وفي التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تراجع اهتمام دول الناتو بقواتها وطلت دباباتها باللون الأخضر في تمويه يرتبط بالعمليات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط ذات الطبيعة الصحراوية، وتراجعت أهمية الخطط العسكرية بالقارة الأوروبية.
وبحلول عام 2014، عندما أمر الكرملين بإرسال قواته إلى شبه جزيرة القرم، لم يكن هناك سوى نحو 30 ألف جندي أمريكي في أوروبا.
وفي ذلك الوقت، سارع مسؤولو وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، إلى دراسة كيفية جعل الأمر يبدو للروس وكأن عدد هذه القوات 10 أضعاف هذا العدد الحقيقي، في محاولة لإظهار بعض الردع، وفق مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية.
وقال أحد كبار الدبلوماسيين في دول الناتو، لـ"فورين بوليسي": "لقد نسي الناتو جيشه بشكل أساسي.. لم يكن هذا الجيش كافيا على الإطلاق لأزمة كبيرة".
أزمة القوات
وبينما يبني حلف شمال الأطلسي خططه الحربية الجديدة هذا العام للدفاع ضد أي هجوم روسي محتمل على ثلاثة محاور؛ الشمال والوسط والجنوب، فإنه يضع جميع الدبابات والمدفعية والذخيرة في مكانها الصحيح.
لكن الحلف يكافح من أجل حشد ما يكفي من القوات. ويخطط لتدريب قوة الرد الجديدة التابعة له، ويبلغ قوامها 300 ألف جندي، هذا الصيف.
ولمواكبة تزايد عدد القوات الروسية بعد عمليات تعبئة متتالية أجراها الكرملين، فسيحتاج حلف "الناتو" إلى احتياطيات قوية من القوات.
لذلك، يتعين على حلف شمال الأطلسي أن يعيد التفكير في الطريقة التي يجمع بها قواته من الدول الأعضاء، وفق المجلة الأمريكية.
وفي هذا الإطار، قال الأدميرال في البحرية الملكية الهولندية، روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، لمجلة "فورين بوليسي": "علينا التأكد من أن لدينا ما يكفي من القوات العسكرية لتنفيذ الخطط التي اتفقنا عليها".
أسباب التراجع
وجندت معظم دول الناتو -بقيادة الولايات المتحدة- القوات العسكرية من المتطوعين طوال نصف القرن الماضي، رغم أن القانون الأمريكي ينص على أنه يتعين على جميع الرجال المؤهلين، التسجيل في الخدمة الانتقائية في حالة موافقة الكونغرس أو الرئيس الأمريكي على التجنيد.
لكن انخفاض معدلات البطالة في الولايات المتحدة وعبر المحيط الأطلسي جعل الوصول إلى أعداد كافية من الجنود أكثر صعوبة، على حد قول "فورين بوليسي".
ومنذ تفشي جائحة كورونا، واصل أصحاب العمل في الولايات المتحدة ضخ وظائف مدنية، ما أدى إلى إبقاء معدل البطالة يحوم حول 4%، ما قلل جاذبية اللجوء للجيش للحصول على وظيفة.
وفي هولندا وألمانيا، تعتبر البطالة منخفضة -نحو 3%- ما يصعب عملية تجنيد جنود للجيش في البلدين أيضا.
لكن توجد عوامل أخرى. وفي الولايات المتحدة، على الأقل، هناك عدد أقل من الأشخاص الذين يستوفون معايير التجنيد العسكري بسبب ضعف اللياقة البدنية، أو المرض العقلي، أو النشاط الإجرامي السابق، ما يؤدي إلى تقلص عدد المجندين.
ويعتقد الخبراء أن العامل الأكبر الذي أدى إلى انخفاض التجنيد هو عدم وجود تهديد وجودي للأمن القومي الأمريكي.
وتقول كيت كوزمينسكي، مديرة برنامج الجيش والمحاربين القدامى والمجتمع في مركز الأمن الأمريكي الجديد (CNAS)، وهو مركز أبحاث في واشنطن: "نحن ضحايا نجاحنا"، قبل أن تضيف أن الشعور بالتهديد الوجودي ليس بالضرورة قويا كما كان من قبل، وهو أمر جيد، لكنه يؤدي إلى بعض التحديات عندما يتعلق الأمر بالتجنيد".
الأزمة في أرقام
لقد فشل الجيش الأمريكي في تحقيق هدف التجنيد (عدد المجندين الجدد المطلوبين) بأكثر من 41 ألف شخص العام الماضي، بل إن الجيش الأمريكي الحالي أقل عددا مما كان عليه منذ أكثر من 80 عامًا.
ويفشل الجيش البريطاني في تحقيق أهدافه المتعلقة بالتجنيد كل عام منذ 2010. كما تقلص عدد القوات المسلحة الألمانية بنحو 1500 جندي في العام الماضي، على الرغم من حملة التجنيد الضخمة هناك.
وحتى أوكرانيا، التي هي خارج حلف شمال الأطلسي، اضطرت إلى خفض سن التجنيد من 27 إلى 25 عاما لجلب ما يكفي من القوات للمساعدة في محاربة الهجوم الروسي على أراضيها.
موقف الروس
في المقابل، عدلت روسيا سن التجنيد، حيث رفعت الحد الأقصى من 27 إلى 30 عاما، لكن الكرملين اتخذ أيضا إجراء على الطرف الآخر من الطيف: رفع سن الخدمة للعسكريين القدامى لإعادتهم للجيش.
هنا، قال كوزمينسكي: "لذا، هناك جنرالات متقاعدون كانوا يشربون الخمر طوال الثلاثين عامًا الماضية، وقد تم تجنيدهم مرة أخرى في الخدمة بالجيش الروسي".
ومؤخرا، حذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مؤخرًا من أن الكرملين يخطط لتعبئة 300 ألف جندي آخرين بحلول بداية يونيو/حزيران.
وتعتقد وزارة الدفاع البريطانية أن روسيا تجلب 30 ألف مجند جديد كل شهر من خلال التجنيد الإجباري. ورغم أن روسيا أفرغت حدودها مع حلف شمال الأطلسي من قواتها لإرسالها للقتال في أوكرانيا، فإن المسؤولين الأوروبيين يعتقدون أن الكرملين يعتزم مضاعفة قواته التي كانت موجودة على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي قبل الحرب، والتي يبلغ عددها نحو 19 ألف جندي.
وقال ليون آرون، وهو زميل بارز في معهد أمريكان إنتربرايز، وهو مركز أبحاث في واشنطن: "إنه سؤال كبير ما إذا كان المجتمع الروسي سيتحمل بالفعل التضحيات.. الرئيس فلاديمير بوتين يخوض ماراثوناً ضد الغرب وأوكرانيا ومجتمعه".
وحتى وسط هذا "الماراثون"، تعتقد الولايات المتحدة أن الجيش الروسي "أعيد تشكيله بالكامل تقريبًا" في الأشهر القليلة الماضية، حسبما قال نائب وزير الخارجية الأمريكي كورت كامبل في حدث إعلامي في وقت سابق من هذا الشهر.
ولمواجهة الفجوة في عدد المجندين مع روسيا، يحاول الأمريكيون والأوروبيون العثور على أشخاص لتأدية الخدمة العسكرية. وهناك عدد قليل من الدول، مثل إستونيا وفنلندا وليتوانيا والنرويج، تجند بالفعل جنودا لوقت طويل عن باقي الدول في الجلف.
لاتفيا تعيد التجنيد الإجباري. أما السويد، العضو الجديد، فأعادت نموذج التعبئة القديم وتتطلع إلى مضاعفة تجنيدها بحلول عام 2030. فيما تحاول بولندا مقاومة الجاذبية الاقتصادية، من خلال بناء جيش للخدمة الفعلية قوامه 250 ألف جندي، وإضافة 50 ألف جندي في إطار قوات لأقاليم البلاد المختلفة.