روسيا وأوكرانيا.. منعطفات الحرب وموازين القوى
حتى قبل أسبوع واحد، كان التوازن الجيوسياسي في أوكرانيا يشبه نقطة حساسة في لعبة الطاولة، أي اللحظة التي يمكن أن تضر باللاعب.
بالنسبة للغرب، الذي يستعد للاجتماع مع قادة العالم الآخرين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بنيويورك، الأسبوع المقبل، بدا أنه لا يوجد أمامه خيار جيد يمكن التمسك به.
فبالكاد يمكن أن يتراجع الغرب عن دعمه لأوكرانيا، بعد إنفاق سخي شهدته الأشهر الماضية التي أعقبت اندلاع العملية العسكرية الروسية في الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي.
فبريطانيا على سبيل المثال، قدمت دعما عسكريا لأوكرانيا بلغت قيمته الإجمالية 1.5 مليار يورو، منذ بداية الحرب، فيما وصل الدعم الأمريكي لـ 15.5 مليار دولار، خلال الفترة نفسها.
ومع ذلك، ترى صحيفة "الجارديان" البريطانية في تقرير لها طالعته "العين الإخبارية"، أنه إذا استمر الغرب في خطته للضغط على روسيا اقتصاديا، فمن المؤكد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيوقف كل الغاز القادم من بلاده، وليس فقط الغاز الذي يأتي عبر خط نورد ستريم 1، ولكن جميع خطوط الأنابيب.
وبالنظر إلى تداعيات الحرب، فإن ملايين المستهلكين الأوروبيين معرضون لخطر التجميد أو الإفلاس هذا الشتاء.
ولا تزال تكلفة حماية الأوروبيين من هذا الارتفاع في الكهرباء والغاز -التي تقدر الآن بـ500 مليار يورو- تهدد الميزانيات، مع تعرض البنوك المركزية لضغوط لمواصلة رفع أسعار الفائدة لوقف التضخم عند 9.8%، وهو أعلى معدل في 25 سنة.
"تموضع" فجّر حبر الأقلام
ومع التقدم العسكري الأوكراني المفاجئ، برواية كييف لا برواية موسكو، يتوخى المسؤولون الغربيون الحذر بشأن نقطة التحول في التعامل مع هذه الحرب.
وأمس الأول الإثنين، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن قواته استعادت نحو ستة آلاف كلم مربع، منذ الهجوم المضاد، مطلع الشهر الجاري.
أما روسيا فتحدثت من جانبها عن "إعادة تموضع" قواتها في منطقة خاركيف، في خطوة فجّرت حبر الأقلام حول المغزى منها، إن كانت فعلا "تراجعا" أم أنها مجرد حركة لا تخرج عن التكتيكات القتالية.
يقول جاستن برونك، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة للجارديان: "في فصل الشتاء، بغض النظر عن مساحة الأراضي التي تستعيدها أوكرانيا قبل أن يغلق الطقس الأمور لكلا الجانبين في نوفمبر (تشرين الثاني)، لا يمكن أن يكون هناك المزيد من الشكوك في أن كييف يمكن أن تفوز، إذا تم دعمها بشكل صحيح".
وأضاف "الحجة القائلة بأن الأمر لا يستحق الاستمرار في إمداد أوكرانيا، لأنها تطيل من حالة الجمود لم تعد حجة. النصر الآن مرئي وذو مصداقية".
والسبت الماضي، وبينما كانت تزور كييف، وصفت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، التقدم الحاصل بأنه "لحظة أمل".
في الأثناء، وبعد 24 ساعة أخرى من التقدم الأوكراني، اندلع نقاش حاد في السياسة الألمانية حول التزويد المباشر بالأسلحة الثقيلة، بما في ذلك دبابات ليوبارد.
وقالت أقنيزكا برجر، نائبة رئيس كتلة "الخضر" في البوندستاج (البرلمان الألماني): "يجب اختبار جميع الخيارات مرة أخرى دون أي حظر على التفكير. هذه أشهر حاسمة بالنسبة لشعب أوكرانيا وللنظام في قارتنا".
سفيرة أوكرانيا لدى الولايات المتحدة، أوكسانا ماركاروفا، هي الأخرى بدت متفائلة بقولها: "هذا الهجوم المضاد يظهر أنه يمكننا الفوز". بحسب ما نقلته "الجارديان".
حتى إن السفير الفرنسي في أوكرانيا، إتيان دي بونسين، تكهن قبل الأوان إلى حد ما بأن الخريف يمكن أن يكون "موسم الانتصار". على حد قوله.
لكن في الوقت الحالي، لن تتوقف الحرب الكلامية المستعرة، بما في ذلك في الأمم المتحدة، حيث اجتماعات الجمعية العامة، الأسبوع المقبل، بحضور الفيتو الروسي الدائم في مجلس الأمن.
روسيا بمجلس الأمن.. لافروف "أسطورة" تشكيل الحقيقة
فوزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف -بحسب الصحيفة البريطانية- "سيجد نفسه في موقف صعب إذا أصبحت الانتكاسات العسكرية الحالية أكثر حدة، لكن قدرته على تجاهل جميع الانتقادات وإعادة تشكيل الحقيقة هي أسطورية".
كما أن تقدم أوكرانيا سيثير قلق الصين التي وعدت روسيا بصداقة بلا حدود، وفق ما يراه ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة.
ولكن حتى الآن، سينظر القادة الغربيون بقلق إلى خارج مكاتبهم المكسوة بالثريات بحثًا عن إشارات عما إذا كانت أوروبا ستنحدر أم ستقف بحزم، فالضغط لم يتوقف بعد.
تقول ناتالي توتشي، مديرة المعهد الإيطالي للشؤون الدولية، إنه لا يزال اختبارا لوجهتي نظر متضاربتين حول مرونة أوروبا، إحداهما لبوتين والأخرى جان مونيه، المؤسس الروحي للاتحاد الأوروبي.
وتشير إلى أن بوتين يفترض أن الديمقراطيات الليبرالية المزدهرة والفاسدة أخلاقيا في أوروبا الغربية ستؤكد في النهاية عدم قدرتها الضعيفة على تحمل الألم.
على النقيض من ذلك، جادل مونيه في مذكراته بأن قوة أوروبا "تتشكل في الأزمات، وستكون مجموع الحلول المعتمدة لتلك الأزمات".
"في كل مرة تتعرض فيها أوروبا للتحدي والانهيار، سواء أكان ذلك بسبب جائحة كورونا أو اليورو، فإنها ستمضي قدما إلى المرحلة التالية من التكيف والاندماج، وبالتالي تحول الأزمة إلى فرصة"، يقول توتشي.
بشكل عام، أظهر استطلاع أجراه مركز "يورو باروميتر" في يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين، أن 68% من الأوروبيين يؤيدون توفير الأسلحة لأوكرانيا.
بينما أيّد 78% العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الحكومة الروسية والشركات والأفراد.
قادة الغرب.. موقف أكثر مرونة
لكن الأمر الأكثر أهمية على المستوى الدبلوماسي، في الشهر الماضي، هو أن القادة الأوروبيين، بعد استجابة أولية منقسمة بوضوح على الحرب في أوائل الربيع، يبدو أنهم استعادوا أعصابهم، وفعلوا ذلك حتى قبل ما تسميه أوكرانيا "تقدما في الجبهات".
وفي هذا الصدد، استعرضت "الجارديان" في تقريرها، سلسلة من الخطابات الصريحة لقادة أوروبيين في باريس وبروكسل وبرلين وواشنطن، ظهروا فيها أكثر مرونة واستعدادا لربط أنفسهم بطريقة أيديولوجية كاملة بحرب قد تستمر حتى الشتاء.
وربما كانت الخطابات في جزء منها -برأي الصحيفة- هجوما دبلوماسيا من قبل برلين وباريس في محاولة لطمأنة دول البلطيق ودول أوروبا الشرقية، لكنها كانت أيضا رسالة تصميم تم إرسالها إلى ناخبيهم.
وزيرة الخارجية الألمانية، على سبيل المثال، قالت في مقال لها في صحيفة "دي تسايت" الألمانية: "يجب أن نواجه الحقائق: هذه روسيا ستظل في المستقبل المنظور تهديدا للسلام والأمن في أوروبا"، واعترفت بأن هذا قد يكون من الصعب ابتلاعه.
مضيفة "علينا أن نفترض أن أوكرانيا ستظل بحاجة إلى أسلحة ثقيلة جديدة من أصدقائها الصيف المقبل"، مؤكدة التزامها بوعودها لكييف، بغض النظر عما يظنه الناخبون.
وبالمثل، حاول المستشار الألماني، أولاف شولتز، في خطاب رئيسي ألقاه في 29 أغسطس/آب الماضي، في براغ، إرساء الأسس لتجديد عميق لسياسة ألمانيا الأوروبية.
خطاب انتهى بسؤال بلاغي: "متى، إن لم يكن الآن، فهل سنبني أوروبا ذات سيادة؟ من، إن لم يكن نحن، يمكنه حماية قيم أوروبا؟".
ماكرون، أيضا، في خطاب ماراثوني أمام السفراء الفرنسيين، مطلع الشهر الجاري، أقر بأنه لا توجد طريقة للعودة مع بوتين.
في المقابل، يميل أكثر المحللين العسكريين في روسيا إلى التقليل من أهمية التقدم الأوكراني على محور الجبهة الشرقية، معتبرين أنه "موضعي ومؤقت"، بل يذهبون حد القول بأنه متعمد لتسليط انتباه الأوكرانيين نحو نقاط التمركز الضعيفة.
وفيما لا تزال طبول الحرب تُقرع، تبقى سيناريوهات الأيام المقبلة رهينة ما ستفرزه التداعيات المختلفة للخطوات على الأرض، وإن يبدو أن الأمور تتجه نحو منعطفات حاسمة قد تكتب نهاية النزاع شرقي أوروبا.