يمثل النزاع الروسي-الأوكراني فشلاً جديداً للغرب في حل خلافاته بحوار يقود لتسوية الأزمة وفق صيغة توافقية.
ويؤكد الوضع في أوكرانيا أن إرث عقود النزاعات لا يزال تحت الرماد في أوروبا، وأن طيَّ هذه الصفحة زمنياً لا يعني تجاوزها نفسياً.
النزاع الروسي-الأوكراني هو تذكير جديد بأن القارة العجوز لم تستوعب بعدُ دروس التاريخ، التي تؤكد أن النزاعات العسكرية لا يمكن أن تكون حلاً للأزمات والمشكلات القائمة بين الدول، لأن تبعاتها الإنسانية والاقتصادية والاستراتيجية باهظة التكاليف، ليس على أطرافها فقط، بل على العالم كله، ولا سيما إذا كانت أطراف هذه النزاعات المباشرة وغير المباشرة قوى كبرى تملك أسلحة ذات قوة تدميرية هائلة.
كان من الممكن -ولا يزال- الوصول إلى حلول سلمية لهذا النزاع قبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، ولكن إصرار كل طرف على التمسك بموقفه حال دون حل سلمي.
فروسيا لديها مخاوفها الأمنية المتعلقة بالقلق من اقتراب حلف الناتو من حدودها وضمّه مزيدا من الدول التي كانت في السابق جزءا من الكتلة السوفييتية، وهو أمر اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لأمنها القومي وخطاً أحمر لا يقبل التفاوض أو النقاش.
في المقابل، رأت أوكرانيا، ومن ورائها الدول الغربية، أنها كدولة ذات سيادة لها الحق في تحديد خياراتها المستقبلية، ولا سيما مسألة الانضمام للناتو.
وبصرف النظر عن مطالب كل طرف ومواقفه، فقد كان من الممكن التوصل إلى حلول وسط، من بينها أن تبقى أوكرانيا دولة حياد بين الروس والغرب، لكن هذه الحلول الوسط ربما غابت عن أطراف الأزمة بسبب الشحن السياسي والإعلامي الكبير وأجواء التوتر المتسارع، والتي وجّهت أمريكا وبريطانيا به نحو بيئة نزاعية.
يرى البعض أن روسيا تميل للحلول العسكرية في إدارة ملفاتها الاستراتيجية، بدءا من النزاع مع جورجيا عام 2008، ثم ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، وحضورها في الأزمة السورية عام 2015، لكن ربما رأت روسيا في النزاع الأوكراني فرصة لتعود إلى الساحة العالمية مستعيدة نفوذها وإرثها السوفييتي كقوة عظمى.
أما الغرب، فربما راهن على أن الرئيس "بوتين" سيكتفي بممارسة أقصى الضغوط دون الذهاب للعمليات العسكرية، حتى إن الرئيس الأمريكي جو بايدن بدا كأنه "الواثق الوحيد" بشأن عزم روسيا على عملية عسكرية موسعة، وهي ثقة لم تكن تستهدف التحذير بقدر ما رأت في الأزمة فرصة ثمينة لاستنزاف روسيا وعزلها دولياً وإضعافها اقتصاديا بشكل يُخرجها من التنافس الدولي الحالي، ومن هنا تعددت العقوبات الاقتصادية، التي فُرضت -ولا تزال تُفرض- على موسكو، والتي وصلت إلى حد منع بعض مصارفها من استخدام نظام "سويفت" المالي العالمي.
وبصرف النظر عن نتيجة هذا النزاع، الذي نأمل ألا يطول، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن العالم بعد مثل هذه الصراعات لن يكون مثل ما كان قبله، لأن نتائج العمليات العسكرية ستسهم ـبجانب متغيرات استراتيجية دولية عديدة تتراكم في السنوات الأخيرة بوتيرة متسارعةـ في رسم ملامح جديدة لشكل النظام العالمي برمته، وهنا ينبع الخوف الأكبر، لأن ارتباط النزاع الروسي-الأوكراني من حيث التوقيت والتداعيات، بتراتبية موازين القوى في النظام الدولي، سيجعل كل طرف يُصرُّ على موقفه، ما يعني إطالة أمد المواجهة.
لا شك أن خيار الحلول السلمية والعودة إلى المفاوضات لا يزال قائماً في كل الأحوال، فالعملية العسكرية مجرد أداة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للدول، وإذا وُجدت أدوات أخرى مقنعة ستفقد نبرة النزاعات مبررها، وهنا يأتي الموقف الحكيم، الذي تبنّته دولة الإمارات، والذي عبّر عنه معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، والذي أكد أن الحلول السياسية وخلق توازنات تعزز الأمن والاستقرار هو الطريق الأفضل لمواجهة الأزمات والحد من آثارها، مؤكداً أن أولوية الإمارات هي تشجيع جميع الأطراف على تبني الدبلوماسية والتفاوض لإيجاد تسوية سياسية تُنهي هذه الأزمة.
هذا الموقف الإماراتي يرسم بلا شك معالم الطريق الأفضل والأهم للتعامل مع النزاع الروسي-الأوكراني، ودون ذلك سيكون المجال مفتوحاً أمام سيناريوهات مأساوية لا تستوعب دروس التاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة