المناطق الآمنة شكلت عبر التاريخ عناوين لتقسيم البلاد التي تقام على أراضيها لكن في غالب الأحيان تكون مؤطرة بقرارات دولية
تثير التوجهات التركية المعلنة وغير المعلنة بشأن إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، بصرف النظر عن عمقها أو طولها، كثيرا من الاستفهامات حول فرص قيامها وتحققها على الأرض في ظل أربعة عوامل واقعية، أولها يتمثل بالموقف الأمريكي الموارب والساعي لخلق حالة توازن تطمئن تركيا من جهة وتحفظ من جهة ثانية مكاسب حلفائها من القوى الكردية دون التفريط بجزء من مشروعها في سوريا، والعامل الثاني الذي يشكل أقلها تحديا في المرحلة الراهنة لتركيا-أردوغان، هو الموقف الروسي الذي بدا متمهلا حيال هذا التوجه المشترك من واشنطن وأنقرة لانشغال موسكو في تنفيذ أجندتها في ميدان القتال قرب خطوط أردوغان على الأرض السورية؛ وكأن الروس يتغافلون عن تلك الطروحات لمصلحة استراتيجية بعيدة المدى دون أن يخفوا امتعاضهم إزاءها.
سياسة أردوغان في الشمال السوري عموما، وتوجهه لإقامة منطقة آمنة تحديدا؛ ستشرع الأبواب لحروب متعددة، وقد تكون طويلة لمواجهة مشروعه عسكريا وميدانيا وسياسيا، سيجد أردوغان نفسه في مواجهة مباشرة مع القوى الكردية التي تعلم أن الهدف التركي البعيد هو اقتلاعها كما حصل في عفرين بعد احتلالها
أما ثالث العوامل فهو القوى الكردية الموجودة على طول مساحة الأراضي المستهدفة بمشروع المنطقة الآمنة المزمعة بما تحوزه من مقومات تاريخية وجغرافية وطموحات لمشروعها الذاتي سواء أكان بصيغته الفيدرالية كما يروجون له أو كمشروع انفصالي كامل، وهذه القوى استثمرت كامل طاقتها في الحرب السورية لمصالحها من خلال مسارين متوازيين الأول السيطرة على ما أتيح لها من الأرض السورية في الشمال والشمال الشرقي، والثاني التماهي مع المشروع الأمريكي في سوريا بشكل واسع، ليبقى العامل الرابع الأكثر تحديا لمشروع المنطقة الآمنة سياسيا وميدانيا متمثلا بالجانب السوري الرسمي بمكوناته العسكرية والأمنية والاقتصادية والميدانية بجميع مقوماتها الذاتية وتحالفاتها الإقليمية والدولية.
إذا كانت بعض الأطراف معنية بنسب متفاوتة بهذا المشروع رفضا أو قبولا بشروط، فإن دمشق تبدو هي المعنية الأهم في مواجهته على أرضها سواء تجلى عبر دول أو من خلال جماعات وقوى محلية، خاصة في ظل موازين القوى التي تتشكل ثانية بعد معركة إدلب ومحيطها.
سياسة أردوغان في الشمال السوري عموما، وتوجهه لإقامة منطقة آمنة تحديدا؛ ستشرع الأبواب لحروب متعددة، وقد تكون طويلة لمواجهة مشروعه عسكريا وميدانيا وسياسيا، سيجد أردوغان نفسه في مواجهة مباشرة مع القوى الكردية التي تعلم أن الهدف التركي البعيد هو اقتلاعها كما حصل في عفرين بعد احتلالها، وفي أضعف الحالات سيعمل أردوغان على فتح مواجهة مع الأكراد عبر أدواته من مسلحي الفصائل السورية المنضوية تحت عباءته كما فعل في عدد من حروبه شمال سوريا، لكن الحرب الأكثر خطورة بسبب المنطقة الآمنة المزمعة هي تلك التي سيفرضها الاحتلال التركي لتلك الأرض على الدولة السورية الساعية لاستعادة ما تبقى من بلدات ومدن تحت سيطرة المسلحين لسيادتها، مع الأخذ بعين الاعتبار دور العامل الروسي الضامن وفق الاتفاقات الثنائية مع دمشق لوحدة سوريا وسيادتها على كامل أراضيها، علاوة على رفض الدولة السورية لجميع الطروحات المتعلقة بالفيدرالية أو صيغ الحكم الذاتي.
المناطق الآمنة شكلت عبر التاريخ عناوين لتقسيم البلاد التي تقام على أراضيها، لكن في غالب الأحيان تكون مؤطرة بقرارات دولية تبعا للظروف التي تعيشها تلك البلاد، في الحالة السورية لا تحظى توجهات أردوغان بدعم قرار دولي ولا حتى بدعم حلفائه الأطلسيين سوى واشنطن التي تصر على إطار محدد لها أقرب ما يكون إلى خط فصل بين القوات الكردية والحدود التركية، وما إصرار أردوغان على المضي قدما نحو إقامتها إلا محاولة لتغيير المعادلة الديموغرافية في تلك المناطق، بحيث يستبدل سكانها الأكراد بمجموعات من اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي التركية القريبة منها، وتسليم إدارتها للفصائل المسلحة المنضوية تحت رايته في بعض مناطق الشمال السوري، وبذلك يتخلص من تبعات وعبء بقائهم على الأراضي التركية، وربما يتركهم في مواجهة لاحقة مع القوات النظامية السورية.
إلى أي مدى يمكن لأردوغان المضي قدما بمشروعه التوسعي في الشمال السوري بمعزل عن موسكو وواشنطن؟ من الواضح حتى الآن أن الأمريكيين لا ينخرطون بأي مواجهة على الأرض السورية ولا يوافقون على جميع توجهات أنقرة، وما حصل لتفاهماتها مع الأتراك حول مدينة منبج لا يزال ماثلا، أما موسكو فيبدو أنها مصممة على انتهاج سياسة تدوير الزوايا مع أردوغان، وبأعصاب مستلهمة من صقيع سيبيريا مع الإصرار على الوصول إلى غاياتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة